أسواق الثقافة العربية.. خسائر بلا أرقام

أسواق الثقافة العربية.. خسائر بلا أرقام

06 سبتمبر 2020
نوري الراوي/ العراق
+ الخط -

تواجه الثقافة العربية المعاصرة إشكاليات عديدة مع تحوُّل العالم تدريجياً إلى سوق واحدة كبيرة، بعضها سياسية الخلفية أو أيديولوجية أو اجتماعية تعوق تواصلها مع الثقافات العالمية الأُخرى. ‬ولكن بعضها‮ اقتصادي و‬رأسمالي بالدرجة الأولى‮. هذه العوامل غالباً ما تكون غائبة عن التحليلات التي تركّز على معايير الفكر والفن والأدب في تقييم الثقافة لا على ظروف إنتاجها وتسويقها واستهلاكها (وهذه كلها بداهةً مصطلحات اقتصادية).

أفرز الغرب، ‬الذي‮ ما زال يتربّع على عرش القوّة المتُحكّمة في العالم‬، ثقافة استهلاكية هيمنت على العالم كلّه هيمنة بطّاشة وسيطرت بشكل شبه كامل على كافّة أوجه الإنتاج الاقتصادي‮ ‬والمعرفي‮ ‬والتكنولوجي‮ ‬والفني‮ ‬والثقافي‮ ‬فيه لمصلحة الغرب واستقراره ورفاهيته‮ وسيادته. أصبحت الثقافة بالمعنى الإبداعي للكلمة في هذا الإطار الاستهلاكي، كغيرها من أوجه النشاط الإنساني، سلعةً تُباع وتشرى ولها ثمن.

ولن نكون هنا ساذجين أو طوباويّين وندّعي أن الثقافة لم تكن كذلك قبل طغيان الرأسمالية المتأخّرة، ولكن سلعيتها لم تكن الصفة الأولى، وأحياناً الوحيدة، التي تميّزها وتُحدّد قيمتها. ‬أمّا الآن وقد أصبحت كذلك وبشراسة، فقد أُضيفت القيمة المادية للمنتج الثقافي إلى القيم الأُخرى التي دفعت الغرب بالأساس إلى احتكار مفهوم الثقافة نفسه، ومُنحت الدور الأساس في تقييم الثقافة ببعديها النخبوي والجماهيري (هل هناك حقّاً فارق بنيوي مهمّ بينهما؟).

الفقر والجهل والمرض والدكتاتورية والمثقّفون المتعالون

تتطلّب السيطرة على سوق المنتج الثقافي أكثر من توافر الموهبة، فهي بحاجة إلى رأسمال وتسويق وإعلان وسوق واسعة تتجاوز في حدودها سوق اللغة الواحدة أو الثقافة الأحادية. والإنتاج الثقافي اليوم مربح مادياً، ممّا يجعل السيطرة على سوق الثقافة هدفاً سياسياً واقتصادياً في الآن نفسه، كما هو هدفٌ تنافسي وشخصي وثقافي.

هذا ما فهمته القوى الاقتصادية والثقافية في الغرب، وفي بعض المجتمعات النامية في الشرق كالهند واليابان، واستثمرته لصالح ثقافاتها وصالح رفاهية العاملين على إنتاج هذه الثقافات في مجتمعاتها، مما ربطها بالدورة الاقتصادية والربحية، وجعلها بالتالي مطلباً سياسياً واستراتيجياً يُخطّط له على أعلى الأصعدة وتُجيَّش له موارد الدولة وقدراتها وعلاقاتها.

هذا ‬واحدٌ من أهم أسباب عجز ثقافات العالم العربي‮ ‬والعالم الثالث عموماً‮ ‬عن تجاوز الإطار اللامتكافئ الذي‮ ‬عانت منه في‮ ‬أيام سطوة الاستعمار في‮ ‬النصف الأول من القرن العشرين على الرغم من طغيان حضارة الاستهلاك على كل التعبيرات المحلّية في‮ ‬العقود الأخيرة‮. هذا الإطار كان ولم‮ ‬يزل محكوماً‮ ‬واقعياً‮ ‬وعددياً‮ ‬وثقافياً‮ ‬ومادياً‮ بالكم الهائل من أبناء وبنات العالم العربي‮ الذين لا تُتاح لهم إطلاقاً‮ ‬المشاركة في‮ ‬صياغة الثقافة العالمية المعاصرة بسبب من الفقر والجهل والمرض، والحكّام الدكتاتوريّين، والمثقّفين المتعالين، والاستغلال الاقتصادي‮ ‬البشع، والانقطاع عن وسائل المعرفة، وسيطرة التقاليد المتزمّتة وركّاب موجتها من مدّعي‮ ‬الرشد والصلاح على حياتهم ونظرتهم إلى الأمور.

وعليه، فالثقافة العربية المعاصرة، بالإضافة إلى التهاء منظّريها بنقاشات قديمة وبالية تُقعدهم عن مواكبة الخطاب النقدي العالمي، تخسر أسواقها المحلّية فعلياً وامتداداتها الممكنة في الجوار الجغرافي والثقافي أمام المدّ الثقافي الغربي الذي غزا العالم العربي من محيطه إلى خليجه (وخاصة خليجه الذي يرفل اليوم في ثراء البترول).

السيطرة على سوق الثقافة هو أيضاً هدف سياسي واقتصادي

تنطبق هذه الملاحظة على أغلب مناحي الإنتاج الثقافي العربي اليوم، وإن كانت حدّتُها تتراوح بين منحى وآخر؛ فالرواية العربية، على تنوُّع كتّابها وازدياد أعدادها، في حافة انكماش نسبي أمام تراجع عدد القرّاء بالعربية بسبب من تصاعد الأمية ثانيةً بعد النجاح النسبي الذي حقّقته برامج محوها في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، من جهة، وازدياد عدد العرب الذين يفضّلون القراءة بلغات أجنبية ولا يتقنون العربية أصلاً على الرغم من دراستهم في العالم العربي من جهة أُخرى.

وكذا الحال بالنسبة إلى الإنتاج الفكري بعمومه، حيث لا يزيد عدد النسخ المطبوعة من أيّ كتاب فكري أو فلسفي في العالم العربي عن ألفَي نسخة لسوق قراءة يمكنها نظرياً أن تستوعب مئة مليون من القرّاء. بل إننا اليوم نجد عدداً لا يُستهان به من الروائيّين والمبدعين والمفكّرين العرب الذين يختصرون الطريق ويكتبون مباشرةً باللغات الأجنبية لجمهور غربي أو عربي متغرب لاعتقادهم بأن "العرب لا يقرأون"، بحسب بعض أعدائهم.

أمّا السينما والمسرح، فهما كذلك في حالة تراجع أمام الغزو الغربي الفنّي والسينمائي بعد نهضة فنية قصيرة الأجل في الثمانينيات والتسعينيات؛ فحصّة السينما العربية اليوم من الأفلام عالمياً ضئيلة نسبياً وضعيفة فنياً على الرغم من وجود بعض المبدعين السينمائيّين البارزين في دول عربية مختلفة، وعلى الرغم من ازدياد عدد المهرجانات والجوائز والاحتفاليات في الآونة الأخيرة. مع ذلك فالسوق واسعة والمستهلك العربي يقبل بشراهة على الأفلام الغربية (والهندية والتركية والإيرانية) ويهمل العربية، إمّا لضعفها أو لعدم حضورها الفعّال في السوق.

أمّا المسرح، فحاله أسوأ؛ إذ انصرف الجمهور العربي عن جانبه الجاد، الذي نجد أن أغلب مؤسّساته في عواصم العالم العربي تحتضر، والتفت إلى بعض جوانبه المسلية والترفيهية التي ما زالت هي الأُخرى ضعيفة فنياً وتمويلياً وثقافياً.

والحال أسوأ بكثير في ما يخصّ العمارة في العالم العربي؛ حيث إنّنا لا نجد اليوم معمارياً عربياً عالمياً واحداً يمارس في العالم العربي (المشاهير من أمثال الراحلة زها حديد وهاني رشيد ينتمون بالحقيقة في مهنيتهم إلى الغرب). والأنكى من ذلك أننا لا نجد لمهنة العمارة وجوداً يُذكر في النهضة العمرانية التي تمور في مدن الخليج العربي خاصة؛ حيث إنها أصبحت معرضاً للابتكارات المعمارية الجديدة تنافس مدن الغرب الكبرى.

فغالبية المشاريع الهائلة تذهب إلى شركات العمارة الغربية العملاقة ويُلقى للمصمّم المحلّي بالفتات.
تبقى هناك ثلاثة مكوّنات ثقافية لقيت نجاحاً تسويقياً وإبداعياً ملفتين في الآونة الأخيرة: الشعر والرسم والتلفزيون. الشعر كان وما يزال المحرّك العاطفي والمعنوي الأول في الثقافة العربية، وما زال الشعراء الكبار يجذبون أعداداً كثيفة من الجمهور المتذوّق.

أمّا مسلسلات التلفزيون العربية فقد انتعشت في السنوات الأخيرة وازداد عددها ازدياداً هائلاً وتحسّنت نوعيتها ومضمونها تحسّناً ملموساً، وإن كان ذلك التحسّن لا يعادل زيادة عددها وأعداد جماهيرها وتضخم رأسمالها. وكذلك الحال بالنسبة إلى الفن التشكيلي في العالم العربي، وبخاصة التصوير الزيتي. فالفنانون العرب قد انتعشوا اقتصادياً في السنوات العشرين الأخيرة بظهور أسواق فنية جديدة وغاليريهات متعدّدة في عواصم العالم العربي كلّها، وصعود طبقة ثرية إلى سطح المجتمع، خاصة في الخليج، ولكن في العواصم العربية القديمة أيضاً، ترغب باقتناء الفن الحديث وهي مستعدة لدفع أثمان باهظة في سبيل ذلك.

ومع نمو سوق الفن وازدياد راغبي اقتنائه، تحسّنت نوعيته وتنوّعت، ولو أن الفن بعمومه ما زال محلياً وما زال مسوّقوه الأكثر نجاحاً هم شركات المزايدات العالمية من أمثال "سوذبي" و"كريستي"، بحيث ما زالت معادلة التفوّق الغربي قائمة والسوق الغربي عامراً بالمال العربي الذي يُبذل في اللحاق بصورة الغرب مع قليل إدراك بأن أصل الصورة ثقافي وعميق وعصيّ على النوال. 


* مؤرخ معماري مقيم في الولايات المتحدة

المساهمون