العمارة كمهنة: من الحرفة إلى الإطارات المفاهيمية والمعرفية

العمارة كمهنة: من الحرفة إلى الإطارات المفاهيمية والمعرفية

23 يوليو 2020
("مجمع سنان باشا" في إسطنبول، 1890)
+ الخط -

ظهرت العمارة كحرفة في الحضارات القديمة منذ حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد. فبعد نشوء الدول والمدن، سيطر معلّمو البناء الذين تلقوا تدريباً عملياً وحساسية فنية على إنشاء المعابد والقصور والمدافن العظيمة في وادي النيل وبلاد الرافدين والهلال الخصيب أولاً، ثم اليونان وروما وبيزنطة والهند والصين وبعدها أوروبا الغربية والعالم الإسلامي في العصور الوسطى. ومع ذلك، فليس من الواضح متى وأين ظهر مصطلح معمار أو ما يُعادله للدلالة على مهنة محدّدة للمرة الأولى.

هناك بعض التقارير المتأخّرة التي تفيد بأن أوّل معماري في التاريخ هو إمحوتب، الذي كان مستشاراً في بلاط الفرعون زوسر (حكم من 2630 إلى 2611 ق.م)، وإليه يُنسَب الفضل في تصميم هرم سقارة المتدرّج، بالإضافة ربما إلى كونه أول من استخدم الأعمدة الحجرية في البناء. ولكن هذه فرضيات أكثر منها حقائق مؤكّدة؛ لأن ما نعرفه قطعاً عن إمحوتب لا يتجاوز كونه مستشاراً محنكاً لزوسر تم تأليهه بعد موته بمئات السنين ونُسبت إليه الحكمة والمعرفة بالطب وكذلك العمارة.

علينا أن ننتظر حتى الفترة الكلاسيكية كي نجد بنّائين ترقّوا في مهنتهم حتى أصبحوا أشبه بمعماريّي اليوم شهرةً وعلماً وثراءً. واحد من أشهر هؤلاء هو أبولودورس الدمشقي، الذي بنى للإمبراطور تراجان (حكم بين 113 و98 بعد الميلاد) بعضاً من أشهر أبنيته قبل أن يقتله الإمبراطور هادريان غيرةً وتشفّياً. لكن المعماري الكلاسيكي الأكثر شهرة هو بالطبع فيتروفيوس Vitruvius (تقريباً 15 - 80 قبل الميلاد) الذي أسّس كتابه عن العمارة "De architectura" المسمّى أيضاً "كتب العمارة العشرة" لتعريف العمارة كمهنة عقلية بالإضافة لكونها حرفة.

تحولت العمارة إلى مهنة تخصّصية مع بدء عصر النهضة

أصبح الكتاب ذاته في ما بعد نموذجاً للكتابة عن العمارة بعد أن اكتشفه معماريو عصر النهضة الإنسانيون واتخذوه أساساً لفهم قواعد البناء وعلم الجمال وأسس التناسب المعماري. ولكن العمارة ذاتها ظلّت في المقام الأول مجالاً حرفياً في مختلف ثقافات العصور الوسطى، حتى تلك التي وَرثت التراث الكلاسيكي، مثلها مثل حرف يدوية أُخرى ذات صلة مباشرة بالحياة اليومية، مثل النسيج وصناعة الفخار. كان هذا هو حال العمارة في الثقافة الإسلامية في العصور الوسطى، على سبيل المثال، حيث لا يظهر أي أثر للمعماريين (أو البنائين)، وغيرهم من الفنانين الذين أبدعوا روائع الفن والعمارة الإسلاميين، في كتب التراجم، أرشيف المسلمين الأول، إلا عندما يبرع واحدهم في بعض المجالات الأدبية أو الدينية مثل كتابة الشعر ودراسة الفقه، أو عندما يصاهر واحدهم أميراً أوسلطاناً. في ما عدا ذلك فنحن لا نعرف عن هؤلاء المبدعين سوى أسمائهم التي خلّفوها محفورة على منجزاتهم من عمارة أو فن.

علاوة على ذلك، ليس لدينا الكثير مما يشير إلى أن البنّائين المسلمين القروسطيين الذين طوّروا معرفة نظرية مرتبطة بحرفتهم، على الرغم من أنّ بعض المصادر تُخبرنا أن بعض المتفوقين من البنائين قد علّقوا على بعض أمهات الكتب الهندسية كما فعل محمد ابن عبد الكريم الحارثي (المعروف بالمهندس والمتوفّى سنة 1204) الذي عمل على البيمارستان النوري في دمشق وكتب على ما يبدو تعليقاً مطوّلاً (هو مفقود اليوم) على كتاب إقليدس المشهور "العناصر"، ليستفيد منه غيره من البنائين والنجارين.

وهناك أيضاً نوع من الكتابة ابتدعه بعض علماء الرياضيات الذين حاولوا تأليف كتب في الهندسة المبسّطة لمساعدة البنائين والنقّاشين على حساب وإنجاز بعض من التفاصيل المعمارية ذات الهندسة المعقّدة مثل المقرنصات والرقوش النجمية متعددة الأضلاع.

لا نعرف عن جُلّ معماريي الحضارة الإسلامية سوى أسمائهم

واحد من هذه الكتب وصل إلينا كاملاً وهو "كتاب في ما یحتاج إليه الصانع من الأعمال الهندسية" لأبي الوفا البوزجاني (998 - 940)، ويحتوي على أكثر من مئة شكل هندسي جرى شرح كيفية رسمها بأبسط الطرق وبدون أي معادلات معقّدة. هذا هو الكتاب الوحيد من هذا النوع الذي وصل إلينا بنسخة واحدة في المكتبة الوطنية الفرنسية، ولذلك فمن من الصعب جدّاً تقييم تأثيره أو تأثير النوع ككل على حرف البناء في العالم الإسلامي. أمّا ما عدا ذلك، فتشير جميع الأدلة التاريخية الأخرى إلى أن تدريب البنائين، كما كان الحال في الحرف اليدوية الأخرى، استمر في الاعتماد على التتلمذ على يد معلّم في الصنعة وملاحظة وتكرار ما يفعله من دون أي تعليم نظري.

كانت الحال مشابهة في ثقافات الغرب في القرون الوسطى. لكنها تغيّرت بحلول القرن الخامس عشر وقيام عصر النهضة في إيطاليا وانتشاره بعد ذلك في بقية أوروبا الغربية. فقد تحوّلت العمارة إلى مهنة تخصّصية تحتاج إلى دراسة مكثّفة للغاية ومتقدّمة فكرياً مع انتشار حمّى عصر النهضة وظهور التقنية الجديدة للطباعة. أصبح عدد من معماريي "الكواتروشنتو" Quattrocento في القرن الخامس عشر الميلادي من أشهر المفكرين الإنسانيين في عيون معاصريهم لأنهم انغمسوا في اكتشاف القواعد الجمالية الكلاسيكية من خلال تفسير النصوص القديمة وتحليل الآثار الكلاسيكية القائمة في مدن إيطالية مختلفة. وهكذا ظهر المفكّرون المعماريون الأوائل، من أمثال ألبرتي وبرونولسكي وبالاديو، الذين كتبوا ونشروا أطروحات معمارية شرحوا فيها مبادئ العمارة الكلاسيكية وإعادة استخدامهم لها في أعمالهم وأعمال معاصريهم، مما أضفى عليهم صفة الروّاد في عملية إعادة الإحياء الكلاسيكي التي ميزت عصر النهضة.

هكذا ابتدأت العمارة باكتساب إطارها المفاهيمي والمعرفي الخاص بها ببطء ولكن بحزم. صار المعماريون يركّزون بشكل متزايد على التصميم وأدواته المعرفية والعملية، وأصبح لمهنتهم انضباطها الأكاديمي ومعاييرها ولوائحها التنظيمية ومجموعة من المراجع المعرفية. ولكن هذه الثورة في مكانة المعماري ونطاقه المهني كانت بطيئة الانتشار خارج أوروبا، مركز عصر النهضة. فقد ظلت العمارة في كل مكان آخر تقريباً، بما في ذلك العالم الإسلامي، حرفة. وبقي المعماري حرفياً يعتمد على سنوات طويلة من التتلمذ على معلّمي البناء.

الصورة
سنان باشا - القسم الثقافي
(سنان باشا)

كانت الاستثناءات في العالم الإسلامي قليلة جدّاً، ولم تُنتج أي نموذج مهني جديد. وهي قد تركزت بشكل خاص في الهند المغولية وتركيا العثمانية، التي أنجبت المعماري المعجز سنان (1489 - 1588) الذي كان معماريّ السلطان لما يقرب من خمسين عاماً، وبنى مئات المعالم الرئيسية في إسطنبول وغيرها التي حدّدت النمط الكلاسيكي العثماني. ولكنه كان شخصية فريدة في العمارة العثمانية، فهو الوحيد في تاريخ العمارة الإسلامية الذي أملى سيرته الذاتية وشرح فيها وجهات نظره حول العمارة بما يشبه كتابات معاصريه من معماريي عصر النهضة.

لكن هذا لم يتكرّر مطلقاً في العالم الإسلامي حتى منتصف القرن التاسع عشر وتحت تأثير أوروبي استعماري مباشر، مما أدخل تنظيمات حداثية أدت في ما أدت إلى تنظيم العمارة كمهنة على النسق الأوروبي في العواصم الإسلامية الكبرى مثل إسطنبول والقاهرة ودلهي أولاً، وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي بحلول أوائل القرن العشرين.‬


* مؤرّخ ومعماري مقيم في الولايات المتّحدة

المساهمون