أزمة كورونا وإعادة انتشار الدولة

أزمة كورونا وإعادة انتشار الدولة

24 ابريل 2020
+ الخط -
أظهرت أزمة كورونا الحاجة الماسّة لتدخل الدولة، سواء لفرض الحجر العام ومراقبة المرضى والتشخيص الصحي الموسّع، أو في بناء المستشفيات وتجهيزها وتسخير أجهزة الأمن والجيش للهدف نفسه، أو في ضخّ الأموال لدعم الشركات، وفي إسناد الفئات المتضررة من الأزمة وغيرها، هذا في الوقت الذي كان يبشر كثيرون من الليبراليين الجدد بانحسار دور الدولة، إن لم يكن موتها.
من الواضح أنه حينما يتعلق الأمر بمسألة الحياة والموت تكتسب الدولة مشروعية التدخل، سواء بطريقة ناعمة أو مغلظة، باعتبارها مصدر الأمن وحماية المصالح العامة. نحن هنا إزاء معادلة هوبزية (نسبة إلى الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز)، تضطر إزاءها جمهرة الناس للتسليم بدور القوة العلوية والقاهرة للدولة التي يسمّيها الدولة التنّين. ويجري ذلك كله من وجهة نظر هوبز من موقع شعور الجميع بالخطر المحدق، وأن البديل عن عدم التسليم للدولة سيكون بالضرورة سيئا ومدمرا للجميع. في حالة هوبز، البديل عن عدم تسليم الناس ما في أيديهم من أدوات القوة والبطش لصالح الكيان المطلق للدولة، هو قتال الكل ضدّ الكل، وفي الحالة الراهنة البديل عن عدم تدخل الدولة هو الفتك بأرواح الجميع، وتفشّي وباء كورونا القاتل.
لم تجد الدول السلطوية أو شبه السلطوية صعوبةً تذكر في تنفيذ هذه السياسة التدخلية بطريقة فجّة وسريعة، أما الديمقراطيات وأنصاف الديمقراطيات فيتم ذلك بطريقة ناعمة، ولكنها صارمة أيضا أحيانا. وقد رأى العالم فعلا مشهد رجال الجيش والأمن الهنود والبنغال وهم يجلدون ظهور الناس في الشوارع والأحياء الشعبية لفرض الحجْر الصحي، بما يطرح سؤالا مهما هنا حول حدود تدخل الدولة وضوابطها باسم الخير العام، وما هي ضمانات عدم تماديها غدا في استخدام هذه الأساليب التدخلية في تهديد الحياة الشخصية والمدنية في الصميم؟
في فترة الأزمات، يعود الناس إلى أكثر شيء ثباتا وصلابة في دواخلهم أو فيما حولهم، ويبدو أنه 
لا يوجد في عصرنا الراهن ما هو أكثر صلابة وقوة من الدولة القومية، اللاهوت المعلمن لعصرنا الراهن. .. ألف الناس قبل ذلك الركون إلى رحمهم الطبيعي القريب، من العائلة الممتدّة إلى القبيلة أو المحلة والجماعة الإثنية والدينية، وبما أن الحداثة قد فكّكت هذه الروابط، أو في الحد الأدنى أضعفتها إلى حد كبير، فقد بقي الركن الشديد وسط هذه السيولة العامة، ألا وهو كيان الدولة الغامض في معناه ومبناه، ولكنه النافذ والغائب الحاضر دوما.
يتحدّث بعضهم عن عودة الدولة مع جائحة كورونا وكأن الدولة كانت غائبة، واكتشف الناس فجأة هذا الكيان مع هذا الوباء، بينما الدولة مرافقة لنا من المهد إلى اللحد، منذ شهادة الميلاد إلى شهادة الوفاة، حاضرة في سنّ القوانين وفي منازعات الجار مع جاره، وفي الطرقات والمعاملات وفي السجون والمدرسة وكل شيء. ولعلها اليوم ماثلةٌ أمامنا بشكل أكثر مرئية وكثافة أكثر مما تعودنا عليه في الأوضاع العادية لا غير. ولعل هذا يذكّرنا بمقولة كارل شميت إن الدولة لا تكتسب مشروعيتها بوصفها دولة إلا إذا أثبتت أنها قادرة على تنظيم ما هو طارئ واستثنائي. والأرجح أننا في السنوات المقبلة سنشهد مزيدا من التوجه نحو المركزية والدولنة في مقابل ما عرف في نظرية الليبراليين الأميركان بالحد الأدنى من الدولة، على حد تعبير روبرت نوزك.
المؤكد أن الدولة، وعلى النحو الذي أثارته أزمة كورونا، ستضطر إلى الرجوع إلى بعض المساحات التي انسحبت منها بتخطيط وتدبير مسبقيْن لصالح الشركات الخاصة وآليات اقتصاد السوق، وذلك في أجواء النيوليبرالية الصاعدة. وليس هذا جديدا، ففي أجواء الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 تدخلت الدولة بقوة لضخّ الأموال، وفرض القيود على البنوك التي شارفت على الانهيار، وجرّت معها الوضع الاقتصادي ككل إلى التدحرج. ويتناقض هذا الأمر في الصميم مع أساس النظام الليبرالي القائم على اشتغال السوق، وفق آلياته الذاتية، ومن دون تدخل الدولة، في إطار ما سماها آدم سميث اليد الخفية للسوق.
الحقيقة أن الدولة لم تغب أصلا حتى يقال أنها عادت، ولكن الأصحّ أنها بصدد إعادة الانتشار. خلال العقود الثلاثة الأخيرة اتجهت الدولة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا نحو الانسحاب من مجالاتٍ كثيرةٍ، كانت تعد اختصاصا حصريا لها، في التعليم والصحة، وحتى في مجال الأمن والسجون والرعاية الاجتماعية وغيرها، على أساس أن ما يسمّى التدبير الحر من طرف المؤسسات الخاصة أقل كلفة وأكثر نجاعةً من الإدارة العمومية. مقابل ذلك، امتدت الأعين البصيرة والأيدي الخفية للدولة في مختلف مناحي النسيج المجتمعي التي ظلت تتوسع أكثر مع تطور تقنيات الرقابة والرصد الإلكتروني وآليات التعرّف على الوجه والبصمة. ومنذ أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001، تعقدت أكثر آليات الرقابة والتجسّس على المواطنين، وأطلقت أيدي الأجهزة الاستخباراتية والأمنية من دون حسيب أو رقيب باسم مقاومة الخطر الإرهابي. وخلال اتساع جائحة كورونا، استخدمت الصين ما يعرف بقاعدة البيانات الكبرى Big Data ، والتي تتيح لها مراقبة حركة كل مواطن وأوضاعه الصحية، وكل معاملاته المالية والإدارية. كما أن الإدارة الأميركية لم تتردد في الطلب من الشركات الأميركية المتخصصة تزويدها بقاعدة بيانات المواطنين، بغرض ضبط مواقع مستخدمي الهواتف النقالة والأجهزة الإلكترونية ومجال حركتهم.
طبعا، تقوم الدول بهذه الإجراءات، لأن مصلحة الناس العامة وحماية أرواحهم تقتضي ذلك، ولكن ليس مؤكّدا أن هذا الأخطبوط الرقابي سيتوارى أو يعود إلى حجمه المطلوب. الأرجح أن يكون
 هذا الأمر موضع تدافع بين قوى الضبط والرقابة وهيئات الدفاع عن الحريات المدنية والشخصية، في الديمقراطيات العريقة، بيد أن الأمر سيكون أشد خطورة، وأكثر ضراوة في دولٍ تعاني أصلا من تضخم أجهزتها العسكرية والأمنية، كما هو الأمر في بعض دول أفريقيا والمنطقة العربية وأميركا اللاتينية.
الدولة ليست قوة خيّرة، وإنْ تكن تقوم بوظائف نبيلة وأعمال خيّرة، بل هي شريرة سياسيا بطبعها، أي هي تميل من داخلها إلى التمدّد والاستحواذ، ما لم تجد قوى كابحة ورادعة لها، على النحو الذي يعلمنا ابن خلدون بأن المُلك يميل إلى الانفراد، ومن بعده مونتسكيو، إنه لا يمنع سلطة عن الغواية والانحراف إلا وجود سلطة مضادّة. والحقيقة أن مساحة التمييز بين الدول التحكّمية والدول الديمقراطية آخذة في التقلص بصورة متزايدة، مع غلبة توجهات الهندسة الاجتماعية والسياسية التي تجعل من المجتمع والأفراد بمثابة عجينة طيعة أمام تخطيط الدولة وتدبيرها "العقلاني".
الأرجح أن الدولة، وتحت ضغط "كوفيد – 19"، ستتجه أكثر نحو العودة إلى بعض المساحات التي انسحبت منها في أجواء الموجة النيوليبرالية، مثل التعليم والصحة والخدمات العامة، ولا يمكن إلا أن نعتبر ذلك خطا تصحيحيا، بعد حالة التوحش الرأسمالي التي جعلت صحة الناس وتعليمهم ومعاشهم تحت رحمة السوق الرأسمالية ومنطق الربح والخسارة. ولعل من حسنات هذه الأزمة أنها ستعيد مقولات العدالة الاجتماعية والتوازن بين الفئات والإنصاف في توزيع الثروة والمعرفة والصحة إلى قلب الجدل السياسي، وهي المقولات التي كادت تختفي لصالح نظرية حرية الفرد وتحرير المبادرة وحركية السوق.
لقد ساهم الضغط الشيوعي منذ الحرب العالمية الثانية في التخفيف من غلواء النظام الرأسمالي وفرض دورا تعديليّا للدولة، عبر نظام الحماية من البطالة وقلة الموارد في الشيخوخة،
 والمساعدات الاجتماعية للفقراء والفئات الضعيفة. ولكن بعد سقوط المنظومة الشيوعية توحشت الليبرالية الجديدة، ولم تعد في حاجة إلى إرخاء الحبل، أو إعطاء التنازلات للعمال والفئات الضعيفة، بل أصبح النظام الاقتصادي في خدمة الأثرياء وكبريات الشركات. وفي هذه الأجواء، سنشهد تراجع السردية الديمقراطية في الساحة الدولية، بزعم أن النظام التدخلي على الطريقة الصينية أكثر تفوقا ونجاعة من النظام الليبرالي الديمقراطي، بدليل أن الصين تغلبت على جائحة كورونا من خلال استخدام أذرع الدولة والحزب الشيوعي الصيني لفرض روح الانضباط. في مقابل ذلك، بقيت الديمقراطيات الغربية تتخبّط في حمّى كورونا لأنها تفتقد مبدأي النجاعة والفاعلية. وستطرب لهذه المقارنة حكومات وأنظمة وقوى ضائقة كثيرة ذرعا بمطلب الحرية والديمقراطية في العالم العربي.
الحقيقة أن هذه الرواية التقابلية بين نجاح التحكّمية وفشل الديمقراطية لا تخلو من المغالطة. أولا، لأن دولا ديمقراطية كانت أكثر نجاحا وأشد نجاعة من الصين في مواجهة جائحة كورونا، مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وغيرها. وأن النجاح والفشل لا يمكن إرجاعهما بالضرورة إلى عامل واحد... فشلت إيطاليا، إلى حد ما، في مواجهة كورونا ليس لأنها ديمقراطية، بل لأنها ما زالت تعاني من مخلفات الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، وكان من نتائج ذلك تراجع استثمار الدولة في القطاع الصحي والتعليمي ومجمل الخدمات العامة، يضاف إلى ذلك غلبة التهرّم السكاني، ثم عدم اتخاذ الحكومة إجراءات التوقي بالسرعة المطلوبة.
عودة الدولة مكسب مهم، ولكن يتوجب الحذر من آفة تمدّد الدولة، خصوصا إذا لم تجد سلط رقيبة وضابطة، كما هو الأمر في عالمنا العربي المصاب بآفتي الاستبداد والحيف الاجتماعي.

دلالات

847C93A2-DCB7-41CA-B614-6BB1A212F4BC
847C93A2-DCB7-41CA-B614-6BB1A212F4BC
رفيق عبد السلام
رفيق عبد السلام