"جسر العودة" الفلسطيني.. بين السياحة والسياسة

"جسر العودة" الفلسطيني.. بين السياحة والسياسة

12 اغسطس 2014
كان جسراً خشبياً كما في أغنية فيروز (العربي الجديد)
+ الخط -
هذا هو الذي كان "جسراً خشبيّاً/ يسبح فوق النهر"، كما غنّتْ له فيروز من كلمات وألحان الأخوين رحباني، وقالت حينها حائرة بين الألم والأمل: "يا جسر الأحزان/ أنا سمّيتُك جسر العودة". أو جسر "ألّنبي" كما عرفه البريطانيّون في الحرب العالمية الأولى، نسبة إلى الجنرال البريطاني، وهو إدموند هنري هاينمان ألنبي Edmund Henry Hynman Allenby، ضابط وإداري بريطاني، اشتهر بدور خلال الحرب العالمية الأولى، فقاد قوّة التجريدة المصرية في الاستيلاء على فلسطين وسورية عامي 1917 و1918، وكما يصرّ الصهاينة على تسميته. لكنّه جسر الملك حسين، كما يطلق عليه الآن.

جسر أقامه الأتراك العثمانيّون على نهر الأردن (منتصف القرن 19)، قريباً من "المغطس" حيث جرى تعميد السيّد المسيح، ليربط الأردن بفلسطين. لذا فهو يشكّل معلَماً من أبرز معالم المسيحيّة ورموزها في المشرق العربي، لا في الأردن/ فلسطين وحسب.

جسر يشكّل معبرَ الفلسطينيّين الوحيدَ إلى الأردن، والجسر الوحيد الذي نعبر منه إلى فلسطين المحتلّة. عبرته منذ عامين لحضور معرض الكتاب في رام الله، بتصريح من وزارة الثقافة الفلسطينية (هناك مقاطعة للسفارة الإسرائيلية في عمّان).

كانت رحلتي شاقّة، رغم دخولي ببطاقة خاصة كلّفتني مائة دولار إضافيّة ( V.I.P). بطاقة تجعلني لا أقابل الإسرائيليين، ولا أتعرّص لمساءلاتهم. ومع ذلك كان مكتب المخابرات الإسرائيلي في انتظاري، ليسألني عن أصلي وفصلي..، مثلما فعل مكتب المخابرات الأردني الذي طلب اسمي من سبعة مقاطع.

في الطريق من عمّان إلى هذا الجسر، لتوصيل صديقنا الفلسطينيّ، ابن الضفّة الغربيّة، نشاهد الجبال الجرداء المطلّة على منطقة الأغوار، الشونة والكرامة، قبل أن نشاهد سهولاً خلف النهر، تليها جبالٌ تخفي خلفها مدينة أريحا التاريخية (11 ألف سنة من التاريخ)، التي لا تبعد سوى خمسة كيلومترات عن النهر، ثم يطلّ علينا جانب من البحر الميّت.
أتذكر الطريق القديمة هذه: كانت عبارة عن منحنيات ضيّقة ومتعرّجة وشديدة الخطورة، لكن جرى توسيعها في اتفاقات وادي عربة، لتتّسع لازدهار السياحة، كما خطّط له وصوّره مهندسو الاتفاقيات المشؤومة التي لم تجلب للأردنيين والفلسطيين سوى المزيد من البؤس، جنباً إلى جنب مع اتفاقية أوسلو طبعاً.

أذكر أنّنا، نحن من كنّا سكّان "الكرامة" قبل معركتها الشهيرة، وفي طريقنا من الكرامة إلى عمّان، أو العكس، كنّا نقطع طريقاً محفوفة بالمخاطر، من وادي شعيب، إلى وادي عربة، وصولاً إلى الشونة والكَفرين ودير عَلّا.

وفي وداع الصديق ابن رام الّله، كنّا أربعة: هو الفلسطينيّ، وأنا بجواز سفري الأردنيّ، وصديق سوريّ هارب من بطش نظام الأسد، وصديقنا الرابع الأردنيّ المقيم في الإمارات، الذي يقود سيّارته السياحيّة برخصة إماراتيّة. وحين استوقفتنا دوريّة من الشرطة، تفاجأ أفرادها من هذا التعدّد في الجنسيّات: فلسطينيّ وأردني وسوري وإماراتي. وبعد تحقيقات مضنية تفهّموا الوضع واعتذروا عن توقيفنا وتأخيرنا، فاعتذرتُ لهم عمّا تسببنا به من إزعاج بهذا "الجمع الغفير" من الجنسيات.

في طريق العودة من الجسر، قلنا نمرّ على المغطس لنستحمّ حيث استحمّ سيدنا عيسى، وكانت الرحلة تحت شمس أغسطس/آب، في أكثر مناطق العالم انخفاضاً، حيث درجات الحرارة تبلغ الخمسين مئوية إلى ما فوق أحياناً. لكنّها في ذلك اليوم توقفت عند درجة الأربعين. واكتشفنا أنّ من يريد الوصول إلى المغطس عليه أن يركب حافلة لمسافة قصيرة، ثم يترجّل ليمشي، راجلاً، مسافة لا تقلّ عن ساعة من الزمن، تحت تلك الشمس الحارقة.

مثل هذا "الحجّ" يستحقّ المعاناة، فمنذ شهور جاء بابا روما حاجّاً إلى المغطس، لكنّه جاء بسيّارته المصفّحة الشهيرة (وربّما كانت "مُكَندشة" أيضاً). فالمكان الذي يحجّ إليه الملايين، هو بالنسبة إلى الجميع ليس أقلّ ممّا هي "الكعبةُ" بالنسبة إلى المسلمين. لكنّ اللافت أنّ الدولة العبرية هي الأكثر استفادة من هذا "الحجّ المسيحيّ".

فغالبيّة "الحجّاج" يأتون إلى "إسرائيل" أولا، ويزورون "المغطس" بوصفه مَعلَما سياحياً إسرائيلياً، ثم يعودون من حيث أتوا، من دون أن يُمضوا ليلة في الفنادق الأردنية، وحتّى من دون أن يفكّروا أن المسيح فلسطينيّ/عربيّ، وليس يهوديّاً! فالقائمون على السياحة في "إسرائيل" يسرقون كلّ ما هو فلسطينيّ، حتى الأكلات الشهيرة، وينسبونها إلى "تراثهم" الهجين..ألم يسرقوا الفول والحمّص والفلافل؟! بل إنهم حتّى يسرقون ويستغلون النسبة الأكبر من أملاح البحر الميت.

المساهمون