مسافة الأمان

مسافة الأمان

19 ابريل 2020
(توفيق قريرة)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع الكتّاب العرب في يومياتهم أثناء فترة الوباء، وما يودّون مشاركته مع القرّاء في زمن العزلة الإجبارية.


في هذه اللحظة التي أكتب فيها إليكم أكون جالساً في مكان نسمّيه "الفيرندة" غير أنّه ليس زجاجياً. الساعة تقارب الرّابعة مساء. أجلس وحولي طيورٌ غَزلة تسكن إحدى شجرات الحديقة. زوج من الطيور يريد أن يبحث له عن عشّ في بيتي. لن يستشير الزوج أيّ واحد منّا في هذا البيت؛ لقد شرع في جلب القشّ الجافّ يضعه حيث قرّر. دخلت العصفورة المكان وقلبته وقبلت به في النهاية.

من مسجد القرية ينبعث صوت عبد الباسط عبد الصمد مُرتلاً آي الذكر الحكيم وعمّا قريب سيؤذّن للعصر. يصلّي الناس في بيوتهم. بعد الأذان يعيد المؤذن تذكير الناس بملازمة البيوت. يُذكرهم بذلك باللغة الفصحى أيضاً. القرية التي أعيش فيها في الشمال الغربي التونسي ليس فيها رسميّاً أيّة إصابة بهذا الفيروس؛ وما تزال المحافظة بأكملها في مأمن من الإصابات، لكنّ ذلك لا يمنع المؤذّن من أن ينادي بمكبّر الصوت موصياً الناس بالالتزام بالحجر.

الحركة في القرية لا تعرف اكتظاظاً حتى في أويقات الذروة؛ القرى ساكنة بطبعها ليس فيها من الحركة ما يقضّ المضاجع. لكني بتّ أرى ولأوّل مرّة أفراداً يقدمون من أقصى القرية يحملون كمّامات على وجوهم. ربّما خافوا من أهل القرية أن يصيبوهم بالعدوى وربّما خاف أهل القرية من القادمين من المدن المجاورة أن يحملوا لقريتهم الطاهرة ما يدنّس راحتها.

ليس الحجر تضييقاً على الحركة وحسب، بل يصاحبه ضيق في الآفاق وفي الأنفس، إذ بات الناس يشعرون بأنّ الإطار الوحيد الضامن للأمان هو المكان الأصغر بالنسبة إلى مكان أكبر منه.

لا يخفي التونسيّون في الداخل رفضهم أن يستقبلوا تونسيين قادمين من الخارج لأنّهم في رأيهم حملة فيروس، وحامل الفيروس في الترجمة التي لا ترحم تعني قاتلاً. والمكان الأصغر هو المحافظة بالنسبة إلى الجمهوريّة، لذلك يرفض الناس في المحافظة أن يأتيهم أغراب يحملون الفيروس الشيطاني.

لقد صنعت الأزمة العالميّة ما يصدّع اللُحمة الاجتماعية وضاق الانتماء حتى صار واحديّ المرجع: أنا وبعدي الطوفان. أنا أشعر بمهانة الانتماء إلى البشريّة التي جعلها الخوف من الموت ترفض أن تمنح الميّت قبراً يتمتّع فيه براحته الأبديّة. لم يعد الموت بشعاً في ذاته بل صار الموت بالفيروس شيطنة وعقاباً بشريّاً يُقصي الميت من شرعيّة الانتساب إلى قبره في بلده الذي كان الموتى يرتاحون قبل أن يموتوا فيه لأنّ أيادي ذويهم ستمتدّ إلى قبورهم تطلب لهم الرحمة.

لقد ساهم الخطاب الإعلاميّ المعولم في نشر الرعب من الفيروس بما روّجه من صور بشعة لجثث الموتى الذين غصّت بهم مشافي بقاع كثيرة من العالم. خطاب الصورة هو خطاب تجرّأ على هتك المحظور والمحرّم. إن كان الموت بهذا الفيروس بشعاً في ذاته فإنّ قتل الناس تخويفاً هو الأبشع، لأنّ من يشاهد صوراً كالتي تنقل ربما رأى نفسه في تلك الوضعيّة.

تغلّب البصريّ على السمعي في عصر هيمنة الصورة. صار الناس لا يسمعون شيئاً بل يكتفون بالمشاهدة. ولأوّل مرّة يميل الناس إلى أن يسمعوا ما يخيفهم كي يخافوا أكثر. لذلك يسمع الناس - تحت ضغط المشاهد المرعبة - علماء العالم ولم يستطيعوا هم أن يجعلوا الناس تستمع إليهم. وفي المقابل برز أشباه المتعلمين فقالوا ما يخيف لأنّهم يعرفون ما يريد الناس الواقعون تحت مطرقة الرعب وسندان الترهيب.

في الحجر إمّا أن تكون حرّاً وإمّا أن تكون عبداً: الحرّية تعني أن تفكّر بلا رهبة والعبوديّة تعني أن تخاف لعبوديّة متأصلّة فيك. الحجر فرصة لك حتى تفكّر في مصيرك: لا مع الله بل مع البشر. وأجمل ما ستفرضه الحياة للناجين في المستقبل هي مسافة الأمان.


* كاتب وباحث تونسي في اللسانيات من مواليد 1963. من مؤلفاته: "المصطلح النحوي وتفكير النحاة العرب"، و"الاسم والاسمية والأسماء في اللغة العربية"، و"الشعرية العرفانية"، و"اللسانيات في دوحة العربية". كما ترجم "أسطوريات" لرولان بارت، و"مباحث منطقية لسانيّة" لبيتر ستراوسن.

المساهمون