الساحة

الساحة

27 سبتمبر 2019
(مقطع من عمل لـ غسان عويس/سورية)
+ الخط -
في وسط المدينة كانت هنالك ساحة، ساحة واسعة تتجاوز الألفي متر مربع بقليل، مسيّجة بسور خشبي عتيق، لا يمسه أحد، فلم يحدث في تاريخ المدينة المعروف أن تجرأ أحد على الاقتراب من الساحة لمسافة تقل عن مائة متر، خوفاً ورهبة منها.

لا يقترب من الساحة أحد، لم يحدث أن رغب طفل باللعب فيها، أما الكبار فقد تحاشوها وتحاشوا ذكرها، وإذا ما اضطر واحد من العجائز إلى المرور بقربها، تجده يخفض رأسه وهو يتمتم بالمعوذات والاستغفار، وكانَ أن زعم بعض الناس أنهم لم يروا طيراً يُحلّق فوقها إطلاقاً، وأنه في ليلة واحدة من السنة على الأقل، تتجه إلى الساحة كل هوام المدينة، فتجد أسراباً من الحشرات بكل أشكالها، بل وحتى القطط والكلاب والضفادع والجرذان، وأيما حيوان يتواجد في تلك المنطقة في تلك الليلة، ستقوده قوة ما ليتجه إلى الساحة بعد انتصاف الليل، وهناك تبقى الحيوانات حتى الفجر، ومن يحاول الوقوف بوجه تلك المسيرة أو يحاول مراقبتها يُصيبه شر كبير في جسده وفي أهله، أهونه العمى وفقدان العقل.

وقيل إن رجلاً في الزمن القديم قيّد قطاً له بقيد من حديد ليمنعه عن ذلك، فما وجد الناس له أثراً. أقسم الناس أنه صار فريسة للحيوانات تلك الليلة، ولم تبق منه باقية، وأقسم غيرهم أنهُ مُسخ فصار كلباً أسودَ وأعرج وأعمى، عُثر عليه في شوارع المدينة بعد تلك الليلة، فلاحقه الصبيان بالحجارة حتى مات أبشع ميتة.

والساحة فوق كل هذا فارغة، لا ينمو فيها سوى عشب مصفّر، وشجرة واحدة في منتصفها، شجرة صفصاف بابلي منسدل الأغصان، تلك الشجرة التي تُعرف بالصفصافة الباكية أو المنسدلة، لأن أغصانها تنحني حتى تلامس الأنهار فيبدو كما لو كان النهر فيضاً من دموعها، شجرة عتيقة وضخمة، ضخمة للغاية، يثير وجودها العجب وهي التي لا تحب أن تنمو إلا عند الأنهار، كيف اتفق أن نمت ها هنا، في ساحة جافة، لا تصلها قطرة ماء واحدة؟

ليسَ للساحة اسم مميز، إنها فقط "الساحة"، واسمها كفيل بارتعاد فرائص البالغين قبل الصغار، وهي المكان المحرّم دخوله لأي سبب كان، فحتى اللص يقف مستسلماً إذا ما قاده حظه العاثر أن يلاحقه العسعس إلى الساحة، وليس عيباً أن يترك الابن قاتل والده إذا ما لاحقه حتى وصلا الساحة.

تقول العجائز إن الساحة محرّمة على البشر، وأن الله حين خلق الأرض خلق فيها سبعة وسبعين ساحة مثل هذهِ، ساحات لا يحق للإنسان لمسها، ومن يتجرأ على ذلك، ملعون هو وملعون نسله؛ فالساحة لا تزال أرضاً بكراً، نقية ترتكز عليها وعلى شبيهاتها الأرض، فلا تنقلب من سوء أهلها، ويقول الصغار إنَّ السر ليس في الساحة بل في الشجرة التي في الساحة. إنها شجرة عطشى، تتحيّن الفرص لتشرب الماء من عيون الناس، وكل من يقترب منها ستمتصه إلى آخر قطرة فيه، حتى يصير مثل حبة زبيب جافة.

ويذهب البعض إلى القول إن الساحة ليست ملجأً للحيوانات فقط، بل هي ملجأ للجمادات كلها، وأنه إلى هذهِ الساحة يلتجئ كلّ شيء، وكل ما يفتقده الناس من دبابيس الشعر إلى فردات الجوارب، بل وحتى الكلمات الضائعة، والذكريات المنسية موجودة هناك، لذا تنذر كل أم لطفل أخرس أن تبات على مقربة من الساحة، تنام في العراء ثلاثة أيام بلياليها، دون أن تنطق بكلمة ولا تتغذى إلا على ثلاث شربات ماء وثلاث حبات من التمر في كل وجبة من الوجبات الثلاث، لها ولوليدها الذي تربطه إلى سور الساحة الخشبي، فيجد الطفل كلماته التي ضاعت منه. ووصفَ الحكماء لكل من مرض بالنسيان، أو فقد شيئاً يعزّ عليه فقدانه، أن يأخذ قدراً من الماء شريطة أن يكون من بيته، يخلطه بالملح ويرشه عند عتبة الدار، ويطلب من الماء أن يجلب الضائع من الساحة، ويُصرّ جميع من في المدينة على أنها وصفة مجربة وفعالة وأن الماء يجف في لحظة اندلاقه، فيعثر المرء على ما كان يبحث عنه!

حاولت السلطات المتعاقبة أن تزيلَ هذهِ الشجرة وتستخدم الساحة المتروكة ولم تفلح، كل مرة كان يحدث أمر غريب لمن ينوي ذلك، فتتراجع السلطات عن ذلك. يومَ سمع الوالي العثماني حكاية الساحة استشاط غضباً، وزعم أن أهل العراق عادوا لعبادة الأوثان، ووثنهم تلك الشجرة الملعونة من بابل الملعونة، فأمر بقطعها في الليل، حذراً من ردة فعل الناس، الناس الذين قيل إنهم استيقظوا في ليلة شتائية باردة على صراخ الجنود الذين استنزفتهم الشجرة وتركتهم جلوداً على الأرض، فآمن الناس بها وازداد إيمانهم.

حين وصل البريطانيون إلى البلد، جربوا بحذر أن يطلقوا كلابهم على الشجرة ليثبتوا للناس أن ما من خطر في ذلك، وأن الخطر في التمسك بالخرافات ليس إلا، لكنَ الكلاب اختفت ما إن دخلت الساحة، وعادت بعد سبع ليال لتقطع بأنيابها أيادي من أطلقوها.

كان الملك فيصل الأول متطيراً من الساحة والشجرة، فلم يغامر بفعل شيء، وأمر بتسييجها بسور منخفض من الخشب، مزخرف بآيات من القرآن، كلها معوذات، وتم له ذلك، إلا أن النجارين الستة الذين سيّجوا الساحة أصيبوا بالعمى ما إن أكملوا السياج، فاتخذهم الناس عبرة.

حدث غير ذلك الكثير، حتى قرّرت قوات التحالف في نيسان/ إبريل 2003، أنَّ هذهِ الساحة الفارغة التي بلا اسم هي المكان الأمثل للقيام بإنزال عسكري، لم يخش أهل المدينة قوات التحالف، قدر خشيتهم من غضب الشجرة، ارتعد الناس خوفاً مما سيحدث ما إن ترمي الطائرة بحملها من الجنود، فهرب الناس خوفاً من أن تخسف الأرض بهم وبالجنود، وظنّوا أنَّ الشجرة كفيلة بهم.

مرّت الليلة ولم يحدث شيء، نزل الجنود واتخذوا من الساحة معسكراً باسم أجنبي غريب، وظلت الشجرة قائمة في وسط المعسكر حتى قرّر جندي سكّير بعدها بسنتين ونصف أن الشجرة عتيقة بشكل قبيح، وأن لا فائدة تُرجى منها غير جذبها للهوام، فقرر كسرها وعلى حطبها المحترق قامت حفلة شواء عظيمة، دفأت الجنود وملأت بطونهم.


* كاتبة من العراق

المساهمون