كان السير وحده يكفي

كان السير وحده يكفي

11 مارس 2019
جيوفاي شيري/ إيطاليا
+ الخط -

لا يهم لا الآن؛ ولا آنذاك؛ ولا غداً، متى حدث هذا ولا أين. لا يهم هل كان الزمن صيفاً أم شتاء، لا يهم المكان أيضاً. من أين جئنا، لم نذكر ذلك لأنه ليس له شأن، وكذلك أين نمضي لا قيمة له، وحده الطريق كان يشغلنا. الطريق فيه نوقع الخطى القصيرة والطويلة، فيه نقفز وننط لما يعترضنا حاجز، وعندما يكون كبيراً نلف. وربما تهنا، وربما نسينا.

الأساس أنه حُكم علينا في محكمة سرية ما أن نسير. وها نحن نسير، هو حكم لذنب لم يقترفه أحد، ليس فيه قاض ولا مدّع ولا محامٍ، حتى القاعة كانت فارغة، لكن كنا المدعى عليهم وسعدنا بالتهمة لما تلي الحكم دون صكّ دعوة، ولم يكن الحكم إحقاق حقٍّ ولا ردعاً، كان حكماً وكفى. وقبلنا به وسعدنا ومضينا.

مضينا في طريق بين جدارين قصيرين، كنت أحمل شيئاً ما في جيبي وكنت تحمل شيئاً ما فوق رأسك، وكنا عندما نتعب نجلس ونقهقه. وتذكرت يوم سهرنا سوياً، وعند نهاية الليل خرجنا نودّع بعضنا، ألبستك معطفك ومسحت الشعر المتساقط فوق الكتفين، وترنحت وسقطت. قلت ساعتها سيطول الطريق وسأفتقدك. وكانت الريح قوية أسقطت الغسيل من الحبل واتسخ من جديد. واعتذرت كأنك أنت الذي نفخت في قربة العاصفة، وضحكتَ لأنك لست أبلهاً مثلي يمكن أن يرتكب مثل تلك الهفوات. قلت لك غياب الأناقة دعها لي، وعقبت ببيت غناء لم أعد أذكره.

من بنى الجدارين كان حريصاً على ألا يفسد المارة حرثه. وأنا كنت حريصاً على أن أكمل الرواية التي لم تسألني عنها ولو مرة، كما لم يخطر ببالي أن أحدثك عن حب يمكن أن يعمر خمسين عاماً، وأن ينتظر العاشق موت الزوج. كنت تلهو بلازمة لحن قديم، وكنت ألهو بسماع صوتك.

ما تحمله فوق رأسك لم يخطر ببالي أن أعرفه، كما لم يخطر ببالك أن تسمع حكايات المتعلمين. القهقهات كنت أحسنها بشهادة الجميع، وكنت تبسم فحسب وترسم بيدك دوائر فوق فمك.

مشينا نتمايل، وقد أريد إسقاطك أرضاً لولا ما تحمله فوق رأسك. وفي السماء الزرقاء غيمة بيضاء تغمز، وفلاح يسقي زيتونة يرفع صوته بموال حزين.

وتذكرت يوم السهرة وكل ما قيل؛ وكل الأغنيات؛ وكل الفرح الذي لا يفيد فيه أن تكون متعلماً، ربما علمكم قد يفسد علينا لحظتنا كنت تقول، وكنت أوافق.

وكاد الطريق يكون خالياً من سوانا، كانت الشمس قد مالت بخصرها نحو التلال، وما زال الناس لم يخرجوا بعد من مخابئهم. هي أجمل الأوقات كنا نختار ونمدد.

الجداران ممتدان نحو الأفق؛ والنخل ترقص ضفائره النسمات؛ والعصافير جذلى. عند الساقية الكبرى لا بدّ أن أرفع عنك ما تحمله فوق رأسك. وتنزع عنك الحذاء، كنت لا تتعب من غمس الأقدام في الماء، وأتبعك.

لم أعد أذكر ما كان يدور بيننا من حديث، لكنه لم يكن يتوقف، كنت أتكلم وكنت تغني. كنت أثرثر وكنت تختصر كل شيء في جمل مثل الحكم.

وكان هناك ثقب في زيتونة كنا نخبّئ فيه الأحلام؛ وحتى الذكريات. كنا نخبئها حتى لا تفسد، وحتى لا تنكشف للأغبياء. وكانت الأغنيات المتوحشة توقع كل شيء، المشي والتوقف وإبان الخروج وإبان العودة. كنت تقول لي أن الغناء عِلم الأميين، وأنه يحتاج التمرّن والصبر، وأن فيه الإحساس والميزان. وكانت هناك أشياء كثيرة لا نقولها، لكن كأننا قبلناها وانتهى الأمر.

وفي لحظة حل الليل، لكنه لم يكن مظلماً، كان القمر يجري وراء السحاب، لكنه لم يكن يصل إلى شيء. لم يكن القمر دوماً يستطيع أن يصل إلى شيء، يدور ببله ويطل علينا فحسب. وكنا نسخر منه؛ ومن الطريق؛ ومن الانتظار، ومن كل شيء. القمر مثلنا محكوم عليه أن يسير لا يلتفت من أين أتى وأين محطة الوصول. ترافقه الغيوم، تتغير، تارة داكنة؛ وأخرى شفافة؛ وكثيرة بنية، وهو هو كأنه أحمق القرية.

أجمل شيء كان، هو أني لم أكن أنتظر منك شيئاً، وأجمل منه أنك لم تكن تسألني شيئاً. لا هدايا؛ ولا عطايا؛ ولا رهونا، ولا حتى عتابا.

يا الله، كنا نمشي جنب بعض وكفى.

وبدأ القمر يكبر ويكبر، وسرت ريح بين الأشجار تخبر بعمق وعبق الليل، وناحت بومة يسمون ذكرها هنا يعقوب. البومة تنوح كل ليل في هذه الساعة وفي هذا المكان. وسألتني لماذا لا أدخن، كلما ذكرت هذا السؤال أضحك، حتى الآن الذي أكتب فيه هذا الكلام المنهك للمتعبين مثلي أضحك. حمار عقل من لا يدخن كنت تردد. رائحة التبغ أفضل من الورد والياسمين.

عدت في ليلة السهرة لأنك نسيت شيئاً لم أعد أذكره، واستأنفنا السهر كما نستأنف اليوم المسير. وسألتني يومها لماذا أقدر على السهر، ضحكت وقلت لأني ولدت في الهزيع الأخير، وترسخ في ذهني حب الليل والحديث والمسير.

الليل والحديث والمسير ربما تختزل كل شيء، وأضفت أنت الضحك، وكدت أسقطك وما على رأسك.

وسرنا بمحاذاة القمر الأسير، لا أحد يعبأ بنا وصلنا أم لم نصل، لا أحد يعبأ بثنائي ضل الطريق.

وصلنا الآن إلى مفترق يتفرّع منه طريقان كبيران وسبيلان متربان، واخترنا الذي يمر بمحاذاة المقبرة. يا إلهي كم كنا نحب المشي بجنب مدينة الموتى. هم أيضاً يسهرون ربما، أو يثرثرون لكنهم لا يزعجون أحداً.

كنا نحب المقبرة لأنها تعلمنا النهايات المؤجّلة، وجلسنا عند حافة قبر قديم يكشف ثقب كبير منه عن جمجمة وبعض العظام. وأخرجت من جيب الكتاب برتقالة.

وتوقفنا، لكنه لم يتوقف المسير.

رغم عدم التوثيق، كل هذا حدث قبل أن يحل الجراد.


* كاتب من المغرب

المساهمون