جار الكينونة لا جيران له

جار الكينونة لا جيران له

03 فبراير 2019
(عمل لـ هوراس بيبين)
+ الخط -

يربطنا التفكير دوماً بالنظام، بحقيقة ما. إن التفكير روح الإمبراطورية. لكن أجدادي بمختلف أطيافهم، ظلّوا دائماً ضدّ روما. تحصّنوا بالجبال، أطلقوا أقدامهم للريح. لم يبنوا مدناً. لم يكن أغسطين منهم ولن يكون، هو الذي ولّى وجهه قبلة الإمبراطورية، وذهب يؤرّخ لإله لم يعرفه أجدادنا... لإله روما الذي لا يحبّنا.

هويّتي هجرتي. لن أكون غربياً. ألم يقلها روسو صراحةً... إن الغربي لا يسافر إلا ليملأ جيوبه؟!

الإنسان... هذا الذي يبعث فيَّ القيء كما كتب أرسطو! من يكون؟ لا أعرف... لا أريد أن أعرفه.

جوهر التاريخ التحوُّلُ، يكتب بوركهاردت، لكنَّ المؤرّخ يغفل أحياناً عن أنها تحوُّلات الوجه نفسه.

قراءة ثالثة لهايدغر: "جار الكينونة" لا جيران له!

هردر العظيم نفسُه، وفي لحظة غيرة من غوته، سيعتبر نفسه كائناً شمالياً، ولن يجد في إيطاليا التي بكاها غوته أسبوعَين قبل عودته من رحلته إلى سمائه الكالحة، لن يجد فيها شيئاً. كلمات غوته تتردّد في داخلي، كلّما عبرتُ المتوسّط باتجاه الشمال. روحي جنوبية... روحه أيضاً.

"لا أحد فهم لغتي"، كتب غوته بعد عودته من إيطاليا.

البرد دم العالم.

ذلكم هو الفارق الوحيد بين أوهام الحداثة وتلك التي سبقتها: لقد كُتبت بلغة مُقنعة.

صورة تسكنُني منذ سنوات طويلة. أراه يحثُّ الخطى إلى مسجد الحيّ، مرتدياً جلبابه الأبيض وبَلْغته المغربية الصفراء. كنتُ أسأل نفسي: كيف له أن يتحمّل الإصغاء لخطبة إمام أُمّي؟ كنتُ أرى الفيلسوف يجالس خضّار الحي والميكانيكي و"سقط" البشر.. ويُلح عليَّ في السؤال: في ما يحدّثهم؟ كنتُ أراه يمشي الهوينا باتجاه مركز المدينة، وحيداً، يُكلّم نفسه حيناً، وحيناً آخر لا ينبس ببنت شفة... وأسأل نفسي: ماذا سيفعل هناك؟ وبعد غربتَين، وندمِ الفكر، أسمعه يهمس في أذني: تكتمل المعرفة فقط، حين تدرك ضعفها.

ابن خلدون: "الناس على دين الملك". المؤرّخ خصوصاً.

حين يشيخ عقل الفيلسوف، يطرق بابَ التاريخ.

ما يزعجني في كتابة المعاصرين هو عجزهم عن الشذرة، جبنهم أمام النقص، هيغليتهم الرديئة.

كثيراً ما بحثتُ لحياتي عن معنى، أو بالأحرى عن وهم، أتعلّق به أياماً، شهوراً. وقد يحدث، أحياناً، أن أتعلّق به لأكثر من سنة، حتى صرتُ أفاضل بين الأوهام، هذا وهم عمَّر أكثر من الآخر، وهذا أقلَّ نسبياً، وذاك لم يتجاوز عمره أياماً وأحياناً سويعات قليلة...

الاعتراف عنف الشبيه.

مطرقة نيتشه لسعة جنون لم يكتمل.

ألم يحوِ برميل ديوجين حقيقةَ كلّ الدنيا؟

لو امتلكَت الآلهة القليل من شرّ البشر، لبدا العالم أقلّ مللاً بكثير.

جرعةٌ كبيرة من الملل، تلك التي احتاجها، حتى يخلق الشرق.

حين يفقد العقل رشاقته، يجنح إلى المنطق.

ليس كاتب الشذرة بذلك الفيلسوف القابع في بيته، والذي لم يفتح نوافذه إلّا ليرفع قبّعته تحيةً لنابليون. لقد حوَّل بيته إلى خندق!

قلّما التقيتُ كاتباً عظيماً، كاتباً يُحسن احتقار أعماله.

حين تبتسم الآلهة، يعبس وجه الإله.

هل من شعبٍ يبكي جلاديه مثل العرب؟

اكتُب شذرة أو اخرس. لا تُثقِل حمل العالم أكثر.

أَعجَب لأولئك الذين يقلّبون لسنواتٍ في جثت التراث، يبحثون عن ترياق أو يبحثون عن عزاء... دافنين رؤوسَهم في طبقات الأطبّاء والشعراء والسحرة... كتبٌ صفراء تزكم رائحتها الأنوف، فناء الأحفاد في الأجداد. لعمري لو أننا فرضنا عليهم القيام بعمل آخر، تنظيف الشوارع من النفايات مثلاً، ألم نكن لنسدي بذلك خدمةً كبيرة للمجتمع وخدمةً لهم؟ أن نحوّلهم إلى ناس عاملين، أن ننقذهم من مثاليتهم المريضة وتخبّطهم الأعمى، أن نفتح أعينهم على نفايات الحاضر؟! عبقريتي تكمن في أنفي، كتب نيتشه، لكننا ثقافة جدعاء.

حين تنهار الجدران تُولَد أخرى.

أغسطينوس. أيها المذنب الأكبر، كيف تولّي وجهك قبلة الإمبراطورية؟ كيف تختار أمّاً غير البربرية وكتاباً غير الريح؟

ليس له غير وجه أمه، يُعيد كتابة تفاصيله التي ضيّعها في رحلته الطويلة إلى البرد.


* كاتب وأستاذ فلسفة من المغرب

دلالات

المساهمون