يقولون إنه كاتب

يقولون إنه كاتب

17 مايو 2017
منذر جوابرة/ فلسطين
+ الخط -

في ذلك الثلاثاء التموزي البعيد، قبل 14 عاماً، همدَ في مشفى وادي الخليل جسدٌ مُنهك. الممرضات اللواتي حملنه على النقّالة إلى عربة إسعاف، ما كُنّ ليُخمّن تاريخَ الحِمْل الخفيف بين أيديهن. وإن كانت واحدة منهنّ سمعت كلاماً لم تدقق فيه عن حامل الجسد وقد غدا محمولاً.

نبرت الممرضة لزميلتها إذ انطلقت العربة: ـ يقولون إنه كاتب.

الممرضتان أشعلتا سيجارتين، وانتقلتا إلى السياج الحديدي المطل على الأسفلت العام، تنفثان ضجرهما من رتابة العمل وقيظ الجو.

بعدها، دخل الجسد فوهة القبر، وهكذا تحقّق شرطُ الأسطورة الأول: تحضر حين تغيب الفيزيقا. فالأسطورة بطبعها لا تُحبّذ العملَ عند الأحياء.

انتهى قاطع التذاكر القديم في باص مهترئ بين كيلبويه وفالبارايسو. انتهى بائع مصابيح عذراء غوادالوبي في مكسيكو سيتي.

أما هنا في برشلونة ، فثمة قوس قزح من نهايات: نهاية غاسل الصحون ونادل المقاهي. نهاية خادم الفنادق. نهاية جامع القمامة. نهاية حارس الليل في الكراجات. نهاية مُفرّغ السفن في الميناء. نهاية قاطف العنب في صيف الجبال. نهاية خياط الجلود في الحيّ الصيني.

هذه المهن وفّرت شرطها الثاني لتتحقق الأسطورة.

أما شرطها الثالث فقد تكفّلت به وسائل الإعلام.

أجلس الآن على السياج الحديدي ذاته الذي جلست عليه تانك الممرضتان. أدخن مثلهما وأصفن في أيام غيبوبتك العشرة. ألتفت إلى الوراء وأشاهد الجرم البيضاوي للمشفى الجامعي: عربات الإسعاف وهي تروح وتجيء فارغة أو محملة بمن فقدوا الخيط وبمن على وشكٍ أو أمل.

أجلس وأفكر في لعبة المصائر المتقاطعة التي خبرتها. في ثمن الأسطورة المفجع. في ألوف المهاجرين واللاجئين تشغل بهم المدينة. حاملي بسطات البضائع الخفيفة في الرامبلا، والشرطة تطاردهم.

أفكر في ألا يعيد جسدي وقد دار الأفق، إنتاجَك مرة أخرى.

هؤلاء الباكستانيون، الأفغان، المغاربة، السوريون، الإكوادوريون، الأفارقة، الأوكرانيون، الصينيون، الرومانيون .. هل يتمخض أحدُهم عن نسخة ثانية منك يا من راحت عليه حياً وجاءته ميْتا؟

وما شُهرةُ الشاة بعد ذبحها؟

هل ثمة جنين يشبهه يسعى بين جنباتك أيتها المدينة النهّاشة؟ أفكّر كم "غاوتشو مزعج" نغّص عليك؟ في إفلاسك شبه اليومي، في طفليك وقد غَدَوَا شابَّين. وأقول إن وظيفة أمهما لوبيث نفعتهما أضعاف ما فعل أدبُك وشهرتك.

لاوتارو وألكسندرا، طفلاك / بهيّاك، لا أتمنى لهما علاقة بالأدب. أفكر أن العدمية فشَت بعدك أكثر مما كان ليجنح خيالُك في خطْفة الأقاصي.

أفكر فيمن أراد نسيان أمر واحد، فانتهى إلى نسيان الأمور كلها، وأحسده.

أفكّر في "مرآة إحباطاتنا وتأويلنا السافل لحريّتنا ورغباتنا". هل بقيت حريات حقاً مع بارىء اليورو؟

أفكر في: أدب + مرض = مرضَين. أفكر بك أيها العوليس التشيلينو، لا رجعة ولا ملاذ.

أنت .. يا من يولد مئاتٌ مثلك كل يوم في المدينة.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون