بيوت

بيوت

29 اغسطس 2016
(زينة عاصي/ لبنان)
+ الخط -

لا تكاد تصل بيتاً جديداً، في هذه المدينة الكبيرة، حتى تبدأ رحلة مغادرتك إياه. قد تطول إقامتك شهراً، خمسة، وربما سنة. لكنك سترحل بلا شكّ إلى مكان آخر، مختاراً ذلك أم مجبره.

تضحك من المفارقة. أنك سكنتَ بيتاً واحداً عشرين عاماً، بينما تنقّلت، في عدّة سنوات، بين أكثر من عشرين بيتاً.

عشرون عاماً في بيت واحد كانت كافية لتعرف ساعة دخول الشمس من شبابيكه الشرقية، واللحظات التي يجب التحرك فيها لتلافي انهمار المطر من سطحه إلى طابقه الثاني، عبر درجه نصف المبلّط ونصف المصبوب، وموعد فوح جوريّه وفلّه، ويباس سجادته وقلب عبد وهابه، وإزهار برتقالته، وتحول حصرمه إلى عنب؛ ولتدرك أن طرْق الباب بهذه الطريقة يعني وصول فلان، وأن صوت غلق الشباك على ذلك النحو آت من بيت فلان، وأن الذي يركض، ماراً تحت بلكون غرفتك، لا بدّ أن يكون ابن فلان.

أما في تنقّلك الجديد، الذي لا يروق لك، فلا تكاد تنتهي من وضع أشيائك هنا وهناك، وهندسة جدرانك وسريرك، واكتشاف أقصر الدروب للعودة من الطريق العام إلى غرفتك، وأفضل مخبز قريب، حتى تفاجأ بلزوم الانتقال إلى مكان آخر. أمر يشبه، في كل مرة، انتزاع القلب من مكانه وإعادته إليه، على دفعات.

كأن هذا الانتقال المستمر بات يدوزن حياتك على إيقاعه. فأنت تنسى وتتناسى اقتناء ما ثقل وكبر حجمه، من كتب ومعدّات شخصية أو منزلية، كي يخفّ رحيلك. وهذا الانتقال لحظة - لا مهرب منها - للوقوع في شرك الماضي، أو لتصفية حساب معه. إذ لا تكاد ترتّب الثياب مع الثياب، والكتب مع الكتب، والدفاتر مع الدفاتر، وكل شيء مع كلّ شيء يشبهه، على طريقة مصنّفي القرن السادس عشر، حتى تجد نفسك أمام ذكريات تخرج من الدروج، وأسماء كدت تنساها، وصور توسّع حدقتي عينيك، ورسائل لا تكفّ، في كل مرة، عن إعادة قراءتها.

رغم ذلك، لا بدّ لك أن تمزّق، في كل مرة، مجلات وصحفاً وأوراقاً، وأن تتخلى عن معطف شتوي منزوع السحّاب، أو عن قميص هرأته الصيف الماضي، وأن ترمي بطاقات لأشخاص التقيتهم صدفة، أو لمطاعم ومكتبات بتّ تعرفها جيداً، وأرقام هواتف وإيميلات مكتوبة على عجل، وملاحظات ومسودات أولية بات جوهرها مدوّناً في مكان آخر، وقسائم، وكروت مواصلات.

في مكانك الجديد، ستعيد ترتيب هذا كله. أو ربما ستتركه في حقائب وكراتين. ولأن قلبك يجافي الأماكن الموحشة والفارغة من ماض، فستقضي ليلتك الأولى فيه وأنت تفكر ببيت آخر. قد تنام وقد لا تنام. وقد تقرر الذهاب للنوم ليلةً أخيرة في سكنك القديم، إن كان ذلك ممكناً، أو لمبيت الليلة في مكان آخر. إنك تبحث عن أي شيء أكثر حميمية من جدران فارغة ورائحة ليست رائحتك. وإن عدتَ في اليوم التالي إليه، فلأنه لم يعد جديداً جداً، ولأنك تركت فيه شيئاً منك أمس. لست تحنّ لأوّل منزل، بل لمنزل.

المساهمون