في مديح الانكتام

في مديح الانكتام

13 يوليو 2016
كاركاتير لـ ستيف كوتس
+ الخط -

جيد أن يكون للكائنات الحيّة أجسادٌ تتنقل بها من هنا إلى هناك ـ وأحياناً بالعكس. وسيّئ أن تكون تلك الأجساد هي ذاتها بمثابة السجون في غير قليل من الأوقات.

أيام زمان، كنت أنظر إلى جسدي كوعاء مؤهّل لامتصاص جميع الألم، ناهيك عن أنه يعمل أيضاً كوسيط صالح لمرور بعض الأفكار.

الآن مع "بركة" وجودي في أوروبا، توسّعت النظرة ـ رغم أن الألم زاد والأفكار المحدودة تقلّصت بدورها. كيف؟

صرت أنظر إليه كوسيلة نقل فائقة السرعة، للانتقال من دنيا فانية إلى عدم أفنى، بأقلّ الجهد.

هناك كنت أفنيت الشطر الأكبر من "السحابة" في عدم الالتفات إليه. وهنا واصلت هذا التقليد الحكيم، بعد عماء بصيرة قصير، بكل إخلاص.

قد يظنّ كثيرون أن رأسمالية أوروبا في آخر طبعاتها (ليبرالية السوق عابرة القوميات والأديان والأوطان)، هي، في الخلاصة الأخيرة، نوعٌ متقدم من الاحتفاء والاحتفال بالجسد البشري، وبعض الأجساد الأخرى (زملاؤنا الكلاب مثلاً).

إنها نظرة عيون ملأى بزَبد السطوح لا غرو ولا غير. فلم يوجد نمط إنتاج في تاريخنا الكئيب كلّه استغلّ الجسد البشري، كما فعلت هذه الحيزبونة. الجسد في نظرها محض أداة لتحقيق "ربح الآخرين" ـ لا ربحك أنت ـ ومراكمة المزيد منه. (أرجو ألا يُجهدني أحد، بالعودة إلى الأرشيف والتذكير بحقبتي الأقنان والإقطاع، فقد أعادت الرأسمالية إنتاجهما وتدويرهما بنثر أطنان من الأصباغ والمُنكّهات على "وجه السحّارة"، ليس أكثر).

وأنا لما تنبّهت لهذه الحقيقة ـ اللطمة، وتفكّرت في مآلاتها طويلاً، وصلت إلى سؤال قد يكون استراتيجياً: طيب، على ايش؟

إذا كانت الحكاية هيك ـ وهي هيك فعلاً ـ فالواحد يأخذها من قصيرها أحسن: يعيش عالة عليهم، ويصاحب عدميّيهم ذوي القلوب الذهب، فينسج معهم علاقة يومية، مؤطّرة بالعيش والملح خاصّتنا، والفكر العبثي وبعض الغبطات العابرة خاصّتهم.

ذلك أن مختصر القصة هو إما أو .. إما أن تقبل بكون جسدك وعاء للألم الفردي، أو تقبله وعاءً لمراكمة ربح الآخرين عليه.

وأنا بوصفي صاحب نوازع رأسمالية أحياناً، توكلت على الله وقرّرت قراري المبرم: لا، الأُولى أَولى لي، فهي أقل كلفة.

خاصة بعدما سمعت من مئات هنا (ومنهم مُساكنتي الإسبانية عابدة السنت)، عن حلمهم الثنائي المتكرّر: يا نربح الجائزة الكبرى في اليانصيب، يا يُصنع لنا نسخة بديلة، تذهب بدلاً عنّا إلى العمل.

"لقد تعبت، فماذا بعد"؟ تسأل مُساكنتي، فأنصحها: أخرجي ترسَك من الماكنة الجهنمية، واشتغلي زبونة في الرافال أو شحاذة على باب مكدونالد في الرمبلا.

غير هيك مفيش يا استللا. لكنها تزوم ثم ترى أن عملها في إصلاحية الأطفال المغاربة يوفر لها مالاً أكثر مما أقترح.

فأُعاجلها: طيب انكتمي، فلا يحق لِمُحافظةٍ مثلك إلا هذا. ولأنها لم تقرأ "كنديد" أو "المتشائل"، فستظلّ تثرثر بالشكوى حتى تتقاعد، بمنأى عن فضيلة الانكتام.



المساهمون