اعبر وعلّمني العبور

اعبر وعلّمني العبور

25 ابريل 2016
"أفكار راقصة"، نديم كرم، لبنان
+ الخط -

الحياة على الكوكب ـ يفكّر بيدرو ـ كالحياة على شاطئ برشلونة: ما تراه اليوم لن تراه غداً. كل هؤلاء سيذهبون ويأتي غيرهم. سيذهبون بقصصهم وذكرياتهم، ليأتي غيرهم بقصصه وذكرياته أيضاً.

هكذا. الحياة على الكوكب ـ يتوسّع بيدرو ـ كالحياة في أي معْلم كبير بالمدينة. كالحياة في الرمبلا أو باسيج دي غراسيا أو كنيسة ساغرادا فاميليا. أفواج تأتي وتذهب. أمواج تأتي وتذهب. والثابت الوحيد هو الجماد: الباب أو الحائط أو الأسفلت أو البحر أو فندق الشراع. وحتى الجمادات ـ يستغوط بيدرو ـ حتى هذه تتبدّل وتتغيّر. إنما ـ يتعمّق بيدرو ـ تبدّلُها وتغيّرُها أبطأ وأقل مأساوية مما يفعله الزمن بالأحياء.

عندما يصل بيدرو لهذه الخُلاصات ينبسط، ويغبط نفسه على التوفيق، فيأخذ جرعة إضافية من الزجاجة المختومة التي وجدها على الشارع. لا شك أن ندرةً ممن يتصيّفون على الشاطئ الآن، يفكّرون مثل بيدرو. ندرةً حتى لو كثرت الزجاجاتُ حولهم وبين أقدامهم. إنهم يرون عري الأجساد ويعمون عن رؤية عُري المصير. ومن يسأل تعليلاً، فجواب بيدرو جاهز: إنهم يخافون الموت. يرتعبون لو فكروا خمس دقائق متواصلة في عرائهم الكامل حينما تجيء تلك اللحظة. عند هذا الحدّ، يتوقف بيدرو، ويقوم نافضاً بعض التراب عن أنفه الطويل، لينزل الماء.

يغطس دقائق قليلة ويرجع. لا يذهب لنافورة الماء العذب، بل يتمدّد على مفرشه، بجوار الفتيات الإنجليزيات، ويغفو. في الواقع، هو غير غاف. هو بوعيه تماماً، لكنه يحب تمثيل الغفو، ليُنصت لشقشقة هؤلاء الفتيات المرحة والرقيقة. آه يا أبي رودريغِث! يفكّر بيدرو.

علمتَني أزرع الزيتون في مصاطب الجبل، وأرعاه وأقطفه، ففلتت مني أشياء كثيرة. لو كنت أعرفها، لكان استرخائي اللذيذ هذا أبدع. آه يا أمي لويسا! يفكر بيدرو. نزعتك الانعزالية، أصابتني بالعدوى. انغلاقك على روحك، جعل روحي طبعة ثانية غير مزيدة ولا منقحة! ما علينا. ينصت بيدرو بجميع ما أُوتي من انتباه وتركيز، وينبسط أكثر. لغتهنّ رصينة الوقْع وليست صاخبة كلغتنا. ثم إن الكحول اشتغلت.

يشعر بيدرو بنشوة تتهادى في عروقه مثل حفيف ملاك تحت كرمة. ثم يغفو، ويطلق بعض الأصوات.

يستيقظ على ضحكاتهنّ، فلا يفهم. يقمن من حوله ويذهبن. يقول: سيأتي غيرهن. سيأتي لا بد!

ولتكن جلستك العابرة هذه يا بيدرو، هي الثابت المؤقت لهذه الرقعة من الشاطئ. ثم يغفو. يستيقظ بعد ربع ساعة، فيجد صبايا من روسيا بجواره. أي بياض ناصع كبياض اليابانيات! يسمع لغتهنّ بفونيماتها الثقيلة تحت المظلة، ويحدق في السماء الضاوية. يعبر عصفور صغير أسود الجناح على بعد.

يتأمله وهو يذوب كنقطة، ويغفو. يستيقط ويتذكّر، بيسّوا. يستيقظ ويتذكّر رودريغِث ولويسا. غرناطةَ الجبلِ البعيد. تلك الطفولة وذلك الشباب المُجِدّ القاسي. اعبُر وعلّمني العبور، اعبر وعلمني، اعبر حتى يُلحس الملح الخفيف مِن على الشفة العليا.

المساهمون