في اليوم الأخير

في اليوم الأخير

13 سبتمبر 2015
يوسف كراش/ الجزائر
+ الخط -

أتمنى أن يمنحك أحدهم، هناك، قلم رصاص، لتضع إشارة أمام المقاطع التي تستوقفك كما كنتَ تفعل دائماً، وإن لم تجد قلم رصاص، فلا بأس باستعمال قلم حبر، أو ما تجده من التراب أو أشياء أخرى.

*

الغرفة 102، مستشفى "سانت أنطوان" بباريس... الغرفة نظيفة والمنظر خلاّب كما في لوحة كلاسيكية. الشمس تغمر النافذة ثم الغرفة بدفء ناعم وحنون. غير أن هذا الوصف لا يليق بشمس نستعيرها من الجنوب لنعيدها طازجة ومنعشة برائحة الموتى وصلوات المُحبّين.

والدي ممدّد بسلام كملاك لا يجد ما يفعله صبيحة الاثنين. ملائكة آخرون يحيطون به، يلبسون الأبيض، يلوّنون شعورهم بألوان غريبة، ويركعون على ركبهم لمحاولة فهم تمتماته. بإمكاني أن أرى المنظر الخلاّب - كما في لوحة كلاسيكية- على وجه الباب الزجاجي. الباب المغلق والنافذة المواربة.

بإمكان ملك الموت أن يدخل الآن بهدوء، مع أشعّة الشمس، مع وقع خطوة حذرة، مع لمسة حنون، مع صلاة صامتة، مع دقّة الساعة حين يحين الموعد كدقّة القلب عند أول موعد غرامي.

*

بفضل الشعر، تمكّنت من مشاركته أيامه ولحظاته الأخيرة. كان موعد تجديد الفيزا الفرنسية شهر أكتوبر، وكنت قد جدّدتُ جواز سفري أيضاً وقدّمت طلب الفيزا إلى إسبانيا في وقت متأخّر.

كنتُ شبه متأكّدة أنني لن أشارك في مهرجان طليطلة الشعري، لأن الفيزا ستتأخّر، لكنها كانت كالموت وأتت في موعدها. أخبرني أنه فكّر في الاتصال بي لأقطع رحلتي وأزوره في باريس لأنه حالته ساءت كثيراً، لكنه لم يفعل؛ تذكّر ما قاله له جدّي: "إذا استشهدتُ، لا تلتفت وراءك وأكمل دراستك". ومقولة جدّي الأشهر أيضاً "اليوم الذي تتوقّف فيه عن الدراسة سأعتبرك ميتاً".

ارتبطت فكرة الموت عند والدي بالتوقّف عن القراءة واكتساب المعرفة، وربّما رحل سريعاً حين أصبح عاجزاً عن حمل كتاب.

*

كان عليّ أن أختار بين الدموع والكتابة، بين ورقة يجفّ عليها الحبر وتتماسك فيها الكلمات، ومحيط تغرق فيه الكلمات ذاتها لتطفو في ما بعد كجثث قديمة. غير أنني كنت كلّما استطعت، أضع موسيقى حزينة وأبكي، ثم أنتظر أن تنمو على الورقة ذاتها شجرة أو مجرّد عشب خفيف.

*

في حديقة مستشفى "سانت أنطوان" وأمام باب قسم الأورام، يجلس شيخ بجانب المشجب الذي عُلّقت فيه أنبوبة المصل، يدخّن سيجارته بهدوء وسكينة صافية.

يحدّق إلى الفراغ بنظرة فارغة ومكتظّة في آن. وكأنه بِروبه الأحمر القصير ودخان سيجارته الكثيف، يُخرج لسانه للمرض والموت والحياة كلّها. كنتُ أحبّ النظر إليه وهو جالس كملك فوق عرش من الغيم.

في اليوم الأخير، اليوم الذي أدركتُ فيهه أن والدي ينتظر بشغف غيمته ليرحل على متنها، خرجتُ إلى الحديقة لأبكي. غير أنني أمام رجل يتحدّى الموت بسيجارة، أخفيت دموعي. لم أخجل منه ولم أشعر حتّى بالشفقة، خفتُ فقط أن يُخرج لي، أنا الأخرى، لسانه ويسخر من كآبتي.

أتذكّره الآن بمحبة كبيرة وأتمنى أن يعيش طويلاً، لينفث دخانه في وجه الموت، الذي عادة ما يتسكّع في أروقة المستشفيات حين يشعر بالملل.

*

هذه الكتابة، ككلب بوليسي مدرّب، ما إن يشتمُّ فيك رائحة الحزن حتّى يطاردك بلا هوادة.

*

يُخيفني أن أشبه رجلاً معقّداً كالحياة وواضحاً وبسيطاً كالموت. الموت الذي استقبله بمصافحة حميمة، تماماً كما فعل جدي. أنا في أحسن الأحوال، كأية شاعرة تغتاب الموت، وحين يحضر، تفضّل كأي جبان، أن يطعنها من الخلف.

*

لا أدري تحديداً في أي يوم رحل. هل رحل في الخامس عشر/ السادس عشر من أيلول؟

رحل حوالي الساعة الثانية عشر ليلاً. الساعة الثانية عشر ليلاً بتوقيت باريس، أي الحادية عشر ليلاً بتوقيت الجزائر.

رحل في ذلك البرزخ الزمني، بين يومين. يومٌ يذهب ويوم يجيء. في ذلك الوقت المبهم، حيث لا تحلّ الذكرى نشازاً، أو كدمعة على شفة مبتسمة، كما تفعل في الظهيرة، أو الفجر أو بداية الليل. رحل، في ذلك الوقت الحميم والهادئ، حيث يكون الحزن طبيعيّاً وأليفاً، كصديق قديم أو كندبة في وجه القمر

*

ها قد عرفتَ الآن يا أبي، وقد اختبرت ذلك بنفسك، أن الكتابة هي المقبرة. حيث لا يسكنها سوى الموتى ولا يمرّ منها سوى الحزانى والورود التي لا يخفق قلب أحد عند رؤيتها. وأن الموت هو أن تتحوّل الكلمة لتُصبح عصيّة على التداول والفهم، كسماء بلا آلهة وأرض بلا موتى، أو كفراشة تنفض عن جناحيها الغبار لتحلّق عالياً.

ها قد فهمت الآن بأن الشعر هو الموت وأن الموت هو الشعر. ولهذا السبب تحديداً، كنتَ تتقّدم بشغف نحو تلك النقطة الغامضة، والتي من شدة سحرها، يتوقّف عندها القلب.

 
* شاعرة من الجزائر

** مقتطفات من كتاب "الغرفة 102.. سيرة والدي"، الصادر مؤخّراً عن "دار العين" في القاهرة

دلالات

المساهمون