فسحة صغيرة بين طابقين

فسحة صغيرة بين طابقين

17 يوليو 2015
(لوحة "شباك مفتوح" لـ راوول دوفي)
+ الخط -

ثمة فارق كبير بين شُبّاك لبيت في طابق علوي وشبّاك البيت أرضي. ففي شبّاك البيت العلوي تبدو الأشياء مائلة للبرود وهادئة وتكاد تكون صامتة، وبذات الوقت لا تمنح المتأمل أيَّ حصة من المشاركة فيما يخصّ ملامح الوجه بما يحدث، ومن هنا جاءت عبارة "فلانٌ يجلس في برجه العاجي" ولم تأت هذه من فراغ كمجاز عن عدم معرفة دقائق الأمور كما تبدو بحسها وشكلها وتأثيرها وأثرها ودراماها التي قد تجرف الرائي لداخلها إذا ما اقترب منها أكثر وأكثر.

بينما الشباك الذي في البيت الأرضي تبدو الأشياء منه كفيلم تشاهده دون تذكرة مع السماح بالتدخين وشرب فناجين القهوة.

أسكن في بيت أرضي، له شباك تبدو من خلاله ثلاثة شوارع. أحد هذه الشوارع يصعد للأعلى لينتهي بمئة متر عند واجهة بيت بطابقين بفسحة صغيرة مشتركة مع بيت بجوار هذين الطابقين، و في هذه الفُسحة طلَّ رجل مُسنٌ على مدار صباحين من هذا البيت وراح يفك مسامير طاولات قديمة وعدة أشياء منزلية وتابع ينشر بمنشاره ويدق المسامير الجديدة.

وكانت سيدة مُسنة يبدو عليها التعب بجواره، تقدم له اقتراحاتها ونصائحها مشيرة بيدها تارةً، وواضعة وجهها بين يديها تارة أخرى وهي تتحدث والرجل يصغي وينظر للأشياء حسب ما يأتي على لسانها من آراء وملاحظات.

غابت لدقائق و عادتْ بكأس صغير مملوء بالشاي وجلسا ينظران لهذه الأشياء وكأنهما ينظران إلى قضبان شباكي الذي أراقبهما من خلاله، وبعبارة أخرى راحا ينظران لعدسة الكاميرا تماماً.

لحظة صمت، أشعلتُ سيجارة، وأشعل الرجل المُسن سيجارة أيضاً، وكأنّ السيدة قالت له شيئاً حول ضرورة ترك هذه السجائر، لكنه نظر إليها وكأنه يسخر من كل هذه الحياة التي قتلتْ في داخله مجموعة أشياء ولم تقتله هذه السجائر.

كان المشهد يشبه مشهداً من فيلم "There Will Be Blood" حين يعثر الأب على الأرض الصالحة للتنقيب عن البترول برفقة ابنه الصغير، و لكن الفارق في هذا المشهد هو الفارق بين الابن وبين هذه السيدة، لكن البطل واحد، ولا ينقصه سوى أنْ يقول لها: لم أحبّك طوال حياتي.

قام الرجل وكاد يرمي الكأس، لكنه لم يفعل هذا، فلقد شرب آخر ما تبقى من الكأس على شكل جرعة كحول وبدا الأمر أنه سيرمي بالكأس على الأرض الترابية التي تمنحه دافعاً لفعل هذا.

المسامير، ثرثرة السيدة، انهماك الرجل بالمطرقة، الشمس، المارة العابرون من فوق الرصيف الذي أسفل شباكي تماماً كأنهم عمال لدى هذا المُسن كما في ذاك اليفلم تماماً وهم ينقّبون عن البترول.

توالت اللقطات، منشار، مسامير، ومسامير ومنشار، السيدة والسيدة، حوار وثرثرة، وصمت، ويد تمسح حبات العرق، ويد تفرك العينين. دخل السيّد إلى بيته وكذلك السيدة.

شارع نحو اليمين وشارع نحو اليسار؛ الذي نحو اليمين يتفرّع منه زقاق في مطلعه فرن خبز بواجهة بللور. يبدو من خلاله أربعة عمال يتوزّع العمل بينهم، بصدريّات بيضاء باستثناء واحد منهم يرتدي ما يشاء.

من يقف على الشباك ومن يبدو شباكه من خلال شباكي كفيلم يعتمد على الفلاش باك، فتتحول غرفتي لفرن خبز وأتحول من وراء شباكي لذاك الذي يقف وراء شباك الفرن يتحدث مع النساء بعبارات قصيرة وهنّ مستيقظات للتوّ، ومائلات دون اكتراث للقصد من وراء هذا البطء في الكلام وهذا البطء في الحركة في طريقة بيعهنَّ الخبز، وتكون العدسة أكثر دقة حين تمتزج سخونة أرغفة الخبز بسخونة الأصابع حين ملامستها لأصابع هذه النساء أثناء لحظة انتقال الأرغفة من يديه ليديها، و كأنّ المشهد هو المشهد الأول من لقاء ريت بتلر وأوسكارلت أوهارا من فيلم "Gone with the Wind" مع الفارق في مسألة النعاس، فريت بتلر هو الذي كان في حالة نعاس، بينما المرأة التي كانت عند شباك الفرن هي التي في حالة خدر ونعاس.

مكنة تدور وفي وسطها طحين وماء للتحرك أيادٍ بيضاء من عجين كتلك الأيادي التي لامست بعضها منذ لحظات، وتتوالى اللقطات لقطة إثر لقطة، وتأخذ خبزها وتقترب قادمةً نحو شباكي بخطوات شيئاً فشيئاً لينتهي مشهد الفلاش باك وأعود كمشاهد داخل الحدث و دون تذكرة مع السماح بالتدخين.

ويبقى الشارع الذي يُفضي نحو جهة اليسار لصباح آخر، وسيناريو فيلم جديد من خلال هذا الشباك. أمّا السوبر ماركت الذي يشكّل زاوية جانب الشارع اليساري مع جانب الشارع المقابل فهو يشبه المادة الإعلانية التي تتخلل عرض الأفلام أثناء بثها عبر المحطات الفضائية؛ مادة إعلانية عالية الإنتاج والحرفية لما تحمله من لقطات لا تقل أهمية عن اللقطات التي تتوزع أمام عدسة شباك الغرفة الحادة الزاوية.

دلالات

المساهمون