وقت مستقطع من عمر الأشياء

وقت مستقطع من عمر الأشياء

02 مايو 2015
حمود شنتوت / سورية
+ الخط -

وكان المغني التركي يغني، والنادل أوزكان يتحرّك مثل حكم كرة القدم في منطقة ال 16، كان نشيطاً وثاقب النظر وكأنه خمس نسخ تتحرك مثل ساحر هنا وهناك، ولا أعرف كيف أشعلَ سيجارتي برمشة عين رغم أنه كان عند زبون آخر حين أخرجتُ سيجارتي من العلبة.

على يميني رجل سعودي في الخامسة والأربعين، وعلى شمالي رجلان ليبيَّان في الستين من العمر، وفي العمق وعند المغني طاولة اجتمع عليها نساء ورجال أتراك، والشاب الإيراني شهركي كان بالقرب من المغني وفرقته المختصرة.

بعد منتصف الليل بساعة، يحتاج المرء للبكاء وللهروب لأبعد مدى ممكن، لم يكن لدي من المال المخصص لشرب الكاسات الكثيرة كي أخرج منطفئاً كما كان يود مظفر النواب، فهذه الشعوب هاربة من أنظمتها صوب الموسيقا ووجوه النساء، فالإيراني همس لي بهذا، والسعودي كان يشرب وكأنه كان يلتهم الكاسات مع سجائر المارلبورو الأبيض وكان يصعد الدرج الذي يصل للحمام كلما صعدتْ امرأة، فلقد كان يتحسس رائحة النساء على هذا الدرج، كان حاله يقول: ما أطيب مرور المرأة التي صعدت ونزلت على هذا الدرج.

الليبي أشار بكأسه لصبية تركية، أي بصحتكِ، وبادلته الإشارة كنوع من اللطف ومشاركته المأساة التي رأتها على ملامح وجهه المُتعَب.

كان هذا البار في شارع فرعي من شارع الاستقلال في إسطنبول، وكان الناس يمرون من أمام البار بهدوء وكأنهم كانوا يلتقطون صوراً فوتوغرافية بعدسة واجهة البار ثم يمضون لعدسات ثانية، ويستطيع الجالس مراقبة هؤلاء المارة أثناء موال المغني الذي يسبق الأغنية.

على الطاولة التي على يمين طاولة الرجل السعودي كان هناك ثلاثة سوريين، قام الأول بإخراج سيجارة وكذلك الثاني، بينما الثالث رفع قداحته للأول، لكن الأول لم ينتبه فلقد كان قد أشعل ولاعته للثاني، بينما الثاني لاحظ قداحة الثالث، أُصيب الثالث بالحرج بينما الثاني أصابه الخجل، في حين أنّ الأول أدار رأسه نحو المغني ولم يلحظ ما حدث في هذه الثواني السريعة التي تشبه ثواني رصاصات آل باتشينو في مشهد مطعم فيلم "العرَّاب" وما حدث على عجل.

من جديد صعدتْ صبية روسية على الدرج نحو الحمام ونزلتْ، وعلى الفور قام السعودي لذات الدرج ونزل بعد أنْ أخذ جرعته مما تركته هذه الصبية من رائحة على الدرج، ومن جديد أشار الليبي لذات الصبية بكأسه السادسة أو ربما العاشرة، وبادلتْه التحية بذات الحركة.
همستُ للسعودي:
هذه النساء مثل عاصفة الحزم، أليس كذلك؟
ضحك ورفع كأسه لي كعلامة على موافقته لهذا التشبيه.

كنا هاربين من كل شيء، وكان أوزكان يضع أذنه لهذا وذاك ويهز رأسه مبتسماً ويتحرك على عجل، دخلتْ امرأة في الخمسين هي الأخرى هاربة من كل شيء، دعاها رجل في الخمسين لطاولته وكان الآخر هارب من كل شيء، وفجأة صدحتْ أغنية بلحن عربي لكن الكلمات تركية، نظرتُ للشبان السوريين، ونظر السعودي إلي، ونظرتُ لليبيين، ولم أكن أدري إنْ كان الإيراني "شهركي" يُدرك أن هذا اللحن لحن عربي.

يا للعروبة !
ويا للجراح التي تحاصرنا في أبعد الأمكنة، وفي الوقت المستقطع من عمر الأشياء.
نظرتُ لليبيين وقلت لهما:
_ من أنتم!
أحدهما ضحك، والآخر قال:
نحن الهاربون من ترابنا الذي لوثه الحكام وسياسات العالَم القذرة.

أخرج السعودي موبايله وراح يصور مقطعاً تضمن عناق الذين راحوا يتمايلون على إيقاع أغنية رومانسية، وأرسله لأحد ما في المملكة كدعوة منه للمجيء، كحالة تعبير عمّا جال في صدره من مفارقات من أثر الموسيقا وهذا العناق.

خرجتُ تاركاً ورائي الهاربين، وهربتُ أنا الآخر لشارع الاستقلال كي أجد عازف آلة نفخية حديثة تشبه الناي وقد جلست أمامه امرأة في الخامسة والأربعين. حين تكرع البيرة، وفي يدها سيجارة لم تشعلها بعد، كانت تبكي وتميل برأسها حزناً على شيء ما. أشعلتُ لها سيجارتها وغادرتُ الشارع متسائلاً: لماذا كل هذا التناقض يا قمر!


*كاتب سوري مقيم في تركيا

دلالات

المساهمون