مواجهة البلطجية.. التحدي الأول لإصلاح قطاع الأمن

مواجهة البلطجية.. التحدي الأول لإصلاح قطاع الأمن

11 اغسطس 2016
يؤجر البلطجي نفسه لمن يدفع له أكثر (فرانس برس)
+ الخط -
يشكل حاجة مجتمعية ضرورية لا غنى عنها من أجل التعايش والاستقرار تتيح للإنسان فرصة ممارسة حياته الطبيعية وتمنحه الحق في الإنتاج والإبداع بدون هواجس أو إرهاصات.

فالشعور بالأمن يفرض الطمأنينة في النفوس ويساعد على أخذ زمام المبادرة والعيش بحربة وكرامة. وعلى هذا النحو، يعتبر الأمن الركن الرصين في بناء الدولة، فمقوماتها تعتمد على وجود جهاز أمني قادر على رصد، تتبع، تفكيك ومكافحة الجريمة ويعمل على إرساء إجراءات استباقية للتوعية والوقاية من الاختلالات الأمنية، كما يستند إلى تطبيق القانون وحماية المواطنين من الأضرار.


وبذلك، يمكّن الأمن من ممارسة الحياة السياسية بسلمية، ويوفر مناخا اقتصاديا مناسبا للاستثمار والتنمية عبر نبذ العنف، الجريمة والإرهاب، كما يخلق حالة مجتمعية تتسم بالحوار البناء والنقاش الهادف الذي يتقبل الأخر ويحفظ مشاركة كل فئة اجتماعية في تقرير مصير الوطن وصياغة سياساته العامة.

وفي المنطقة العربية، عرف جهاز الأمن بعد الاستقلال انحرافات واسعة ناجمة عن التضخم الكبير في عدد العاملين به وحجم المهام التي أوكلت إليه، الأمر الذي أدى إلى تدخل الأمن في جميع مناحي الحياة وتفضيل المقاربة الأمنية على المشروع التنموي حتى أصبح الجهاز في خدمة الحزب الحاكم، وتحول في العديد من الدول العربية من مؤسسة دولة إلى مليشيا نظام سياسي تخدم مصالحه في تضييق الممارسة السياسية، العمل على الاغتيال السياسي الجسدي والمعنوي، ثم انتهاج الحلول الأمنية والسياسات التخويفية للسيطرة على المجتمع من خلال انتشار حالة الطوارئ، واستعمال الفزاعات الدينية، الطائفية، الإثنية وحتى الفروقات الاجتماعية لتبرير تلك الانحرافات والتعدي السافر على حقوق الإنسان الذي يظهر جليا في عدد السجون والمعتقلات، تكاثر حالات التعذيب وتقييد الحركات الاجتماعية، الأمر الذي تسبب في تحجيم الحياة السياسية وأضاع على الدول العربية فرصا اقتصادية هائلة خلال العقود الأخيرة.

وبالموازاة مع ذلك، لم يعد الجهاز الأمني كافيا لتأدية المهام القمعية وممارسة الاستبداد، فتمت الاستعانة بفئة أخرى لها معنى واحد على الرغم من اختلاف الأسماء والصفات من دولة إلى أخرى البلطجية، المواطنين الشرفاء، الشبيحة.. إلا أنها ظاهرة متواجدة في جل الدول العربية، حيث كان يلجأ بعض الناس إلى المجرمين والخارجين عن القانون لاسترداد حقوقهم في مناطق جغرافية يعجز الأمن عن تأدية واجبه فيها أو طلب الحماية منهم عندما يسود التسيب والفوضى في مقابل إعطاء مبلغ مالي.

وإجمالا، تعتبر البلطجة استخداما للعنف أو الإكراه بصورة غير مشروعة من جانب أطراف غير رسمية، من أجل فرض إرادتها على الآخرين. وتشمل البلطجة الأنشطة التي تمثل انتهاكا للقانون، مثل أعمال السرقة، النهب، والاعتداء على الملكيات العامة. كما تشمل الأعمال المصحوبة بالاستخدام المتعمد للعنف، وبإلحاق الأذى اللفظي والجسدي بالآخرين والتي تهدف إلى تحقيق أغراض خاصة بالبلطجي أو بمستأجريه مقابل عائد مادي يدفع له.

وعلى هذا الأساس، يؤجر البلطجي نفسه لمن يدفع له للقيام بأعمال عنف وتخريب تحقيقا لمآرب الأخرين، فيستخدم العنف كوسيلة لا غاية تمكنه من الحصول على مكاسب مادية. ودخل الجهاز الأمني في علاقة تعاون مع البلطجية كطرف هام في معادلة القمع، حيث يتم توظيفهم لترويع المعارضين للنظام السياسي، تنظيم المظاهرات لتأييد النظام ورجاله، واستخدامهم لإنجاح الحزب الحاكم في الانتخابات. وفي المقابل، يتم غض البصر عن مخالفتهم القانونية وأعمالهم الغير مشروعة كتجارة المخدرات، السرقة، النصب والاحتيال، التهريب والابتزاز حتى أصبحت البلطجة مؤسسة وجهازاً بديلاً للأمن العام يتصرف بدون قيود، يطغى ويتجبر على المواطنين في شكل كامل من التعدي وإهدار كرامة الإنسان.

ومثل الحراك العربي الحدث الذي أبرز ظاهرة البلطجة كجهاز كبير يتوفر على صلاحيات كبيرة وموارد بشرية ومالية عديدة جعلته يتصدر طليعة الأمن ليواجه المطالبين بالديمقراطية والحريات وضمان المواطنة الحقة في المجتمع. فقد صارت البلطجة مؤسسة تضاهي المؤسسة الأمنية الرسمية وتؤدي خدمات أمنية للمواطنين الذين عانوا من الفوضى مقابل عائد مالي وتعمل مع القوات الرسمية في إقامة القمع واستمرار الانحرافات كاستثمار كبير للحظة السياسية.

وفي ذات النطاق، يمثل إصلاح قطاع الأمن أولوية كبرى للدول العربية واستكمالا طبيعيا لمسار التحول الديمقراطي للحد من الممارسات القمعية وتعبيد الطريق أمام مناخ اجتماعي يحقق المعادلة الصعبة بضبط الأمن والحرية، ويساهم في عدالة انتقالية ومصالحة وطنية بين كل الأطراف السياسية.

ويتطلب تحدي إصلاح قطاع الأمن اصطفاف كل الأطراف السياسية وإرساء برنامج عمل يعتمد على تغيير الفكر الأمني بأجهزة الدولة وتوجيهه لخدمة المواطن باعتباره نواة المجتمع، ثم العمل على تدريب الكفاءات الأمنية على اليقظة، التعامل الأدمي مع المواطنين، وربط مسؤولياتهم الأمنية بالمحاسبة من خلال ميثاق شرف وقواعد سلوكية تلتزم باحترام حقوق الإنسان. ويعترض العمل الأمني في الدول العربية عوائق تتجلى في التسييس المفرط للأجهزة الأمنية، تداخل مهامه مع أجهزة أخرى الأمر الذي يعيق النمو الاقتصادي ويعكر صفو السلم الاجتماعي.

وختاما، تحتاج الدول العربية إلى عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة في المؤسسة الأمنية عبر القضاء على ظاهرة البلطجة، إشعار المواطنين بالأمان والانتقال نحو أفاق رحبة من فصل السلطات وتحييد المؤسسات عن الصراعات السياسية. فتزايد البلطجية وتغذية قوتهم دليل على ضعف الدولة وتأكل هيبتها، فهذه الظاهرة تنمو في الدول الرخوة التي تعاني من البيروقراطية والفساد فتصدر القوانين ولا تطبقها وتدعي حماية الناس وهي أول من يسيء لهم.

(المغرب)

المساهمون