"الجهاد الوسطي" الجميل

"الجهاد الوسطي" الجميل

18 فبراير 2016
أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة (فر انس برس)
+ الخط -
في بداية عام 2014، وجّه أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة كلمة لمؤيديه تحت عنوان "التحرر من دائرة العبث والفشل"، استخدم فيها أفكاراً كتبها عبدالوهاب المسيري عن العلمانية. المفارقة كانت كبيرة لدى كثير من المتابعين، فمن كان يتخيل أن يستعين زعيم القاعدة الجهادي بأفكار عبدالوهاب المسيري لتأييد فكرته.


سبب المفارقة عند البعض كان يمكن تفسيره بأنه يتعامل مع التيارات "الجهادية" الإسلامية ككتلة واحدة متشابهة وبتصورات ذهنية مسبقة، لكن هذه الواقعة كانت كاشفة عن وجود تباينات حدثت داخل التيارات الجهادية السلفية، وما زالت تحدث، لكنها برزت بصورة أكبر مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية، لتصنع اختلافات لا تخطئها العين.

رؤية تنظيم الدولة قائمة - إلى حد كبير - على ما طرحه أبوبكر الناجي من أفكار في كتابه "إدارة التـوحش"، التي نظر فيها إلى الانتقال من مرحلة "جهاد النكاية" الذي يضرب العدو من أجل أن يضعفه، إلى "جهاد التمكين" الذي يسعى إلى إقامة دولة، وقال في كتابه إن المراحل الانتقالية ما بين الهدم والبناء هي مراحل هامة، يسميها أبوبكر بمرحلة التوحش، لذلك يجب إدارتها بطرق فاعلة للوصول إلى إنشاء الخلافة واستقرارها، وإلا فإن فشل إدارة هذه المرحلة لا يعني الاستقرار، بل سيعني الدخول في مزيد من "التوحش".

وإذا كانت الدولة الوطنية تقوم على دعم خارجي كبير ودعم داخلي أيضا، مما يجعلها قوية، إلا أن هذه القوة - عند الناجي - هي قوة مصطنعة وليست حقيقية، وهي مجرد هالة تحيط بالدولة تصنعها بالأساس وسائل الإعلام. لذلك فإن وجود فئة من المواطنين تقاوم هذه الهالة وتأخذ بالسنن الكونية وتؤسس لمناطق تحت سيطرتها وتبسط عليها الأمن، سيكون الخطوة الأهم في قيام الخلافة وتحقيق التمكين.

أما على الصعيد الفقهي، فقد اعتمد التنظيم على فتاوى أبوعبدالله المهاجر في كتابه "فقه الدماء"، وهو كتاب يُدرَّس بصورة شبه رسمية داخل التنظيم، وأقر بأولوية قتال العدو القريب، وهي الأنظمة الحاكمة ومن يقف معها، عن العدو البعيد، وقدم تنظيرات فقهية متعددة لعمليات قطع الرؤوس وأن الكفر في حد ذاته يعني جواز أو وجوب القتل، ثم أقر بمشروعية امتلاك أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيماوية والجرثومية في حروب الكفار، وجواز قتل الكفار، حتى لو اختلط بهم من لا يجوز قتله، هذه الأفكار وغيرها مبنية على أفكار مدرسة "السلفية الجهادية" التقليدية.

على الجانب الآخر، حاول تنظيم القاعدة إعادة تقديم نفسه، فطبقا لـ (وثائق آبوت آباد)، وهي أوراق عثر عليها في مقر أسامة بن لادن بعد اغتياله على يد القوات الأميركية، وجدت مراسلات بينه وبين آخرين تدعو إلى استخدام استراتيجيات وتكتيكات أقرب إلى الشعوب وتحسين صورة القاعدة سياسيا واعلاميا وشعبيا.

ونتج عن ذلك نشوء فكرة "أنصار الشريعة" في ليبيا واليمن وتنظيم "النصرة" في سورية، حيث يسعى التنظيم إلى الاندماج مع القوى المحلية والشعبية والتحالف معها ثم حثها على تبني الخيارات الإسلامية، وشارك التنظيم في أعمال إغاثية وخدمية بل وسياسية، دون أن يشارك في الانتخابات أو دخول البرلمان، وطبقا لهذه الرؤية فإن عمل القاعدة يتحول من عمل نخبوي ضيق إلى عمل شعبي واسع.

ومن نتيجة ذلك، على سبيل المثال، أنه عندما قامت الولايات المتحدة بإدراج النصرة ضمن المنظمات الإرهابية، خرجت مظاهرات في الأسبوع التالي في سورية 12 ديسمبر/ كانون الأول 2012 تحت عنوان "كلنا جبهة النصرة".

نجاح الثورات العربية في بدايتها جعل التنظيم يقر ضمنيا بـ، أو يسكت عن، الخيار السلمي لإسقاط الحكام وهو ما سيبدو واضحا في خطابات الظواهري، خاصة في الحديث عن مصر، أما على المستوى الاستراتيجي فقد اعتمد التنظيم على أفكار أبومصعب السوري خاصة في كتابه "حروب المستضعفين" و" دعوة المقاومة الإسلامية العالمية" والذي يتبنى تحويل الجهاد إلى مشروع "أمة" وليس مشروع "تنظيم" عبر إنشاء سرايا تجمع بينها الفكر والعقيدة، تتعاون فيما بينها على تحقيق الأفكار دون الحاجة إلى وجود تنظيم أو إعطاء البيعة لأحد، وتتعاون مع السكان المحليين، وأن هذه السرايا والتنظيمات عليها أن تتعاون مع التنظيمات الأخرى دون أن تحتكر القتال أو الحكم، فجميعهم شركاء فيه، وبذلك فإن أبومصعب يميل إلى تبني استراتيجيات "لامركزية" وتنظيمات متعددة في مقابل الاستراتيجية "المركزية" والدفاع عن التنظيم الواحد التي يقدمها أبوبكر الناجي.

في الخيارت الفقهية، تؤكد أفكار أبومصعب على حرمة دم المسلم، حتى لو كان فاسقا أو عاصيا، وأن تطبيق الحدود هي مهمة الإمام وهو غير موجود، وأن هدف الجهاد الأول الآن هو دفع الكفار عن بلاد المسلمين. أيضا هو يقول إن كل من يشهد بالشهادتين فهو مسلم. ويعتمد التنظيم على فتاوى عطية الله الليبي. هذه الأفكار وغيرها هي تطور لأفكار المدرسة "الجهادية" التي نشأت مع سيد قطب ثم مروان حديد وعبدالله عزام وصولا إلى أبو مصعب السوري.

كانت الثورات العربية وصعود محمد مرسي للرئاسة في مصر بدعم واسع من الإسلاميين، على اختلاف أطيافهم، آخر التحديات وأكثرها صعوبة على مستوى الفكر بالنسبة للتيارات الجهادية، فقد بدا أن الشعوب قد نجحت في إسقاط الأنظمة بدون سلاح، ثم استطاعت ايصال مرشح إسلامي إلى سدة الحكم عبر صناديق الديموقراطية. هذا دفع تنظيم القاعدة إلى إظهار مواقف أكثر براغماتية وأكثر قربا للشعوب، وهي أفكار ربما كانت موجودة لديه في السابق، لكنها لم تكن معلنة، وكأنه بذلك يقدم صيغة جديدة لـ"الجهاد الوسطي الجميل"، لكن هذا دفع تياراً جهاديّاً آخر، "تنظيم الدولة"،  إلى تبني مواقف أكثر تشددا واستخداماً للعنف بصورة أكثر قسوة، وتصعيد نبرة الرفض لأية حلول لا تتوافق مع ما يريد. وللغرابة فإنه خلال الـ 3 سنوات التالية كان تنظيم الدولة يحقق نجاحات على الأرض، وتنظيم القاعده لا يحقق نجاحات خاصة في سورية.

في النهاية فإن ما حدث حتى الآن داخل التيارت الجهادية هو اختلاف في التكتيكات والأساليب والاستراتيجيات، دون حدوث خلافات كبيرة على مستوى الأصول والمقدمات والأفكار الأصلية، لكن الواقع المفتوح حاليا يجعل احتمالات كثيرة مفتوحة أيضا في المستقبل.

(مصر)

المساهمون