رمضان مع جنائيات "القناطر"

رمضان مع جنائيات "القناطر"

19 يونيو 2015
+ الخط -
نفحات تتنزّل، وقلوب تستقيم، وسماء تتزيّن بأول ليلة رمضانية داخل زنزانة الحبس السياسي، بهجة تثقب القلب مهما بلغت أحزانه، فتمسح ما علق به من قهر بشري، وكأن السجن بضيقه يتسع بنا.

افترشت المعتقلات أرض الزانزنة، في مساء الجمعة 22 أغسطس/آب 2014، عقب ركعتي القيام، في دوائر عشوائية متفرقة للقيام بمهمة اعتدن عليها في مثل هذا اليوم من كل عام، بتعليق زينة ورقية بأحاديث عن فضل الصيام، وتغليف قطع من "التمر" وتدبيسها بورق أبيض تحمل عبارات المعايدة لتوزيعها على الجنائيات في العنابر المجاورة.

حاولت اختلاس لحظات السعادة النادرة بإمساك طبق بلاستيكي لأضرب عليه بدلاً عن "الدف"، وبصوت عال أغني ومن ورائي بنات الاعتقال: "رمضان جانا وفرحنا به بعد غيابه وبقاله زمان، غنوا وقولوا شهر بطوله أهلا رمضان" ومن أغنية لأخرى، نسترق البهجة من وجوه بعضهن البعض.

وبعد الانتهاء من تغليف أطباق التمر التي استمر العمل فيها ساعات، وتوزيعها، وجدنا إحدى الجنائيات في الخارج تدعونا إلى الاحتفال في ساحة العنبر والغناء معهن، بعد أن قمن بانتزاع تأشيرة بالموافقة من "أمي ناصرة" كبيرة رؤساء نبطشيات وصاحبة الكلمة الفاصلة في سجن القناطر.


خرجنا في طابور ومعنا أطباق للضرب عليها، ولإحداث نوع من التناغم اخترنا مجموعة من أغان معروفة للجميع كي يتسنى لهن الغناء معنا، ولعل أكثرها شيوعا وانتشاراً "أهلا شهر الصوم" لعبدالعزيز محمود، والتي اعتدنا سماعها منذ الصغر، واقترنت سعادتنا بسماعها بحلول شهر رمضان، ومن بعدها أغاني مدح الرسول، ذات الترديد الجماعي.

كانت الساحة ممتلئة بأعدادنا، جنائيات ومعتقلات رأي، يبتهجن والضحكة تملأ الوجوه وهن يرددن كلمات النشيد ذات الطابع الشعبي قائلات "آه يا نور نبينا يا سلام".

أزيلت الفوارق جميعها، وأزيلت معها كل المشاعر السلبية والتصنيفات المجتمعية، انتهينا من فقرة الغناء الجماعي وارتمينا على سرائرنا، في استراحة قصيرة قبل بدء صلاة الفجر والاستعداد للسحور، وإن كان لسحور أول يوم واقع مؤلم خارج منازلنا، وإن كنت أرى أنني أفضلهن على الإطلاق، حيث إن السبع الليالي الأخيرة ستكون انتهت فترة العقوبة النظامية المفروضة عليّ، لقضاء ما تبقى من رمضان في بيتي.

كل قد عرف منا دوره، في صباح أول يوم، قمنا لصلاة الضحى ثم قراءة صامتة للقرآن، لحين رفع أذان الظهر، عقب زيارات الأقارب، ثم توافدت طالبات العنبر الأزهري للانضمام إلى عنبرنا لتناول الفطور الجماعي، بعد صلاة العصر نقوم بتجهيز الطعام، والعصائر، وتلاوة جماعية سريعة للأذكار، حتى سماع أذان المغرب.

أما عن اللحظة التي تكرهها كل امرأة فهي "غسل المواعين والأطباق المتسخة"، فكان يخصص لهذه المهمة "اثنتان" للذهاب إلى الحمام على الفور لتنظيف المواعين، واثنتان أخريان تقومان بتنظيف الغرفة ومسحها، قبل البدء في صلاة العشاء والتراويح. وبعد الأربع ركعات الأولى، كانت كريمة الصيرفي تذكر لنا مما قرأت عصر اليوم عبرة قرآنية من قصص الأنبياء والصحابة. كثيراً ما يقطع التيار الكهربائي في تلك الفترة، فنجلس قرابة الساعة نغني ونتبادل الأحاديث، حتى مجيء النور ومواصلة الركعات المتبقية.

كنت أكثرهن اعتراضاً على طبيعة الأكل، خاصة "المبكبكة" الأكلة الشهيرة في رمضان والتي كنت أتعجب من عدم إصابة آكليها ومحبيها بـ"التلبك المعوي"، مكرونة الصلصة التي لا طعم ولا شكل لها، وتطهى بشكل يومي. في أول الأمر ظننت أن المعتقلات يمارسن مهمة النفاق الاجتماعي المسموح به بمدح من قام بطهيها، لدرجة جعلتني أسأل بعضهن على حدة "حقيقي انت عاجباكي المبكبكة"، فتأتي الإجابة بالإيجاب، بل ويزدن بأنها "اختراع"، فأضرب كفا بآخر مغتاظة من أذواقهن، وأقول: "روحي.. الله يمسيكي بالخير يا أمي".

الخلافات فيما يخص طريقة الابتكار بالطعام كثيرة، أتذكر أحد المواقف لـ"معتقلة المترو هاجر طاهر" كانت مجرد محاولة ابتكارية لزميلتنا هند منير بتقديم طبق سلطة خضراء مضافاً إليها قطع التفاح، ظلت هاجر تنظر إليها باشمئزاز وهي تتابع ما تقوم به. وفجأة علا صوتها: "إيه الأرف اللي بتعمليه ده، ده اسمه عك، إزاي بصل مع تفاح"!. عراك انتهى بأن "الأرف ده يا ماما لو مش عاجبك متكليش منه، تفهمي انت ايه عن أكل المطاعم".

(مصر)

دلالات

المساهمون