سيجارة في فم ابن باديس

سيجارة في فم ابن باديس

23 ابريل 2015
+ الخط -
رائد النهضة الإسلامية في الجزائر، صدم الجماهير المتمترسة خلف شاشات الحواسيب والهواتف الذكيّة بصورة لا تليق بعالم جليل. وبعد هرج ومرج؛ تحرّك رجال الأمن لاعتقاله.. بدعوى حمايته.

كانت الأنظار موجّهةً إلى "مدينة العلم والعلماء"، وهي تُتوَّج عاصمةً للثقافة العربية؛ حين انتشرت على الشبكات الاجتماعية صورة لمؤسّس "جمعية العلماء المسلمين"، بشيبته وهيبته، وهو يضع سيجارةً في فمه.

وكما جرت العادة، لم تتأخّر حملات الإدانة والاستنكار ضدّ ذلك السلوك المُشين. فالجيوش المرابطة خلف الشاشات، على أهبة الاستعداد لخوض جميع الحروب الافتراضية التي قد تشتعل في أيّة لحظة.

لكن، وعلى رأي المثل الجزائري: "واش يعمل الميّت في يد غسّالُه؟" فهذا شأن كلّ الشخصيّات التاريخية، أو العمومية بتعبير آخر: بإمكانك أن تبني مسجداً ضخماً في غرب البلاد وتعطيه اسمها، كما بإمكانك أن ترمي بها إلى قارعة طريق ما في شرقها؛ ليركبها الأطفال وترمي عليها الحمائم فضلاتها. وبإمكانك أن تفعل الأمرين معاً.

فبينما كانت عاصمة الغرب الجزائري، وهران، تحتفي بأوّل جمعة في مسجد "الإمام عبد الحميد بن باديس" الذي افتُتح أخيراً، بعد 44 سنةً من التأخّر، كان الشيخ يجلس وحيداً قبالة دار الثقافة في عاصمة الشرق، قسنطينة، يراقب افتتاح حدثها الثقافيّ الكبير، تزامناً و"يوم العلم" الذي يأتي في السادس عشر من أبريل/نيسان في كلّ عام.

يُحيي الجزائريون يوم رحيل "العلّامة" بوصفه يوماً للعلم، ولو كان بإمكانهم دعوته لحضور الافتتاح الرسمي للتظاهرة المُقامة في مسقط رأسه، لفعلوا بالتأكيد، وإن كانوا سيعجزون عن تبرير الاحتفال بيوم موته، بدل يوم ميلاده.

فلمّا كان غائباً منذ 75 عاماً، كان لا بدّ من إيجاد طريقة ما لاستحضاره. ومن حسن حظّ القائمين على التظاهرة (من سوء حظّهم ربّما) أن شركةً برتغالية، من الشركات التي أنجزت بعض المرافق في المدينة للمناسبة ذاتها، وفّرت عليهم الوقت والجهد، وأهدتهم نسخةً عن الشيخ الجليل.

غير أن التمثال الذي زُرع في أحد شوارع المدينة، لم يقترب من الملامح الحقيقيّة للشيخ، على ما تقول عائلته التي كانت أوّل من نادى بنزعه، بدعوى أنه يسيء إلى الراحل أكثر ممّا يمجّده، إذ يُظهره عجوزاً طاعناً في السنّ، بينما الحقيقة أنه مات في مقتبل العمر.

أمّا على مواقع التواصل الاجتماعي، فأثار شكل التمثال وحجمه سخرية عدد كبير من الناشطين الذين أكّدوا أنه يقزّم العلّامة ابن باديس، بسبب افتقاره إلى أدنى الجماليّات الفنيّة، خاصّةً أنه جاء بحجم صغير ورُمي على الأرض مباشرة، فضلاً عن أن الشيخ الذي يُجسّده ينظر في الفراغ نظرات تائهة.. ويبدو كما لو كان مقعداً.

وتفاقم الوضع بعد انتشار صورة على الشبكة، لمراهقين يناولونه فنجان قهوة ويضعون سيجارة في فمه. اعتبر الكثيرون الأمر إساءةً بالغة لواحد من رموز الجزائر وأيقوناتها تعكس جهلاً وعدم تقدير لدى الجيل الجديد لنضال ابن باديس ضدّ الجهل والتطرّف والأفكار البالية، خلال فترة الاستعمار الفرنسي، وهو النضال الذي شكّل أساسَه الشباب الذين خاطبهم في إحدى قصائده الشهيرة قائلاً: "يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب".

وبينما حمّل بعضهم المنظومة التربوية والثقافيّة مسؤولية ما سموه تدهور القيم وضياع البوصلة عند الأجيال الجديدة التي باتت لا تعترف بمرجعياتها الثقافية والحضارية؛ فضّل آخرون قراءة الصورة من زاوية مختلفة؛ بوصفها تعكس فلسفة الجيل الجديد التي تتجاوز المقدّس ولا تعترف بالتاريخ الرسمي والأحادي، داعين إلى ترك هؤلاء المراهقين وشأنهم ومحاسبة من سموهم بلصوص الثقافة والتاريخ والمتاجرين بأسماء الشخصيّات التاريخية كالإمام عبد الحميد ابن باديس والأمير عبد القادر مؤسّس الدولة الجزائرية الحديثة.

بعد أيّام، تدخّلت السلطات لفرض حراسة مشدّدة على تمثال الشيخ لحمايته، ليظلّ ملتصقاً في مكانه.. يرى كلّ شيء ويعجز عن فعل أيّ شيء.

 

(الجزائر)

المساهمون