تحطيم المحطَّم

تحطيم المحطَّم

04 مارس 2015
+ الخط -

أثارت هلوسات الدواعش وحملتهم التطهيرية الواقعة أخيراً بحق شواهد التراث المحفوظ في متحف الموصل، موجة من التعقيبات الصحافية، واستثارت أعمدة الصحف وعديد من المؤسسات الدولية المعنية بشأن التراث والموروث الحضاري لأهل كوكبنا، مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونيسكو" وغيرها. كما استفزت أقلام وضمائر كثيرين من ذوي الشأن المعرفي والسياسي. وفي غمرة هذه "الدوشة" البكائية في جلّها، يُلمس فارق كبير، بل شاسع، عما أثارته عتبة التحطيم الأولى للبلد عينه والموروث نفسه.

صحيح أن المليونيات انطلقت في شتى المدن الكوزمبولية، وعمّت الجموع أكثر من عاصمة عام 2003 اعتراضاً على حملة بربر ما بعد الحداثة من أصحاب الشفاعة لدى "بريتون وود" اعتراضاً واحتجاجاً، بل ورفضاً قاطعاً، للتحضيرات الأميركية، بعون وتضافر جهود دول حلف شمال الأطلسي، لشن حربهم على العراق، أرضاً وإنساناً، وصحيح أن غير دولة عربية عبرت بخجل عن امتعاضها من مثل هذه الحرب التدميرية التي كان يتم التحضير لشنها على ملايين العراقيين، الذين طالما اكتووا بنار ديكتاتور ثقيل الظل على صدورهم وأوراحهم، ونار حروبه مع الجيران والأشقاء، هذا غير دونكيشوتياته النووية والجرثومية.. إلخ، التي دفعوا ثمنها من دمائهم ومستقبل بلدهم بجامعاته ومشافيه ومدارسه ونفطه، وقضى الكثير منهم مكتوياً بنار الهجرة، أو الإبعاد القسري عن مسقط رأسه.

لكن، وما لا يطيق حتى السرد الإخباري لمجريات تلك الحرب ومآلاتها تحمل التغاضي عنه، هو عدم طغيان البكائيات والمعلقات المزخرفة بأهمية تلك الأقلية العرقية، أو تلك الطائفية الدينية في تاريخ المنطقة ورسالتها الحضارية، على أفواه وأقلام كثيرين، بل وكانت الحرب ردحاً محبباً لدى بعض معتنقي "التحليل الملموس للواقع المحسوس" ممن أجادوا التمايل على مقدمات مدرعات الاحتلال في بغداد والبصرة وغيرها من المدن التي بدأت تشهد عصر سحق من نوع وطعم آخرين مذاك.

علماً أن المجتمع العراقي، ومثله السوري واللبناني، وغيره الكثير في المنطقة العربية، كلها مجتمعات تزخر بالتنوع الإثني والديني والخصوصيات الثقافية التي طالما عاشت ضمن ظلال بوتقة معقولة من الانسجام الذي تفوقت آلياتها الذاتية ورؤيتها لمصالحها كجماعات عضوية، على عجرفة الدكتاتوريات القُطرية والعديد من الأحزاب التي يصطبغ خطابها بمفردات حداثية ولا تنسى التعريج على قيم المواطنة والانتماء الحر وتعزيز حضور المجتمع المدني. فقد ثبت أن الجماعة العضوية تفوقت على أدعياء الحداثة، ومصنعيها في معامل الدكتاتورية، في خلق حالة الانسجام، أقله الحياتي اليومي، والتمتع بمزاياه، علماً أن أحد مساند الخطاب الأساسية لتلك الدكتاتوريات، كما نشهد اليوم مع عصابة "الممانعة"، هي الزعم بأنها الجسر الوحيد للوحدة الوطنية، والأمل الوليد الوحيد لكل من يعرف عن نفسه بانتماء أقلوي لكي يأمن شر الأكثرية الدموية والغاضبة الناقمة عليه، وفق زعم أصحاب هذه المدرسة.

ما لا يجب أن يغيب عن بال الناظر، ولا عن معطيات طاولة المتفحص في هذا الوقت، بعد أكثر من عقد على احتلال العراق، أن ما نشهده اليوم، ليس إلا استكمالاً لمآلات دخول مغول العصر إلى بغداد وعودة حرابهم وخوذهم الموضوعة على رأس غيرهم إلى المنطقة العربية برمتها، وهو من أقل ما يمكن توقعه نتيجة لتسليم بلد بمقدرات العراق وتنوعه الاجتماعي لطاغية طائفي مصاب بمتلازمة تهميش عشائر السنّة، وفتح المجال واسعاً أمام اللاعب الإيراني حيثما كان ينتظر طويلاً، وهو أيضاً نتاج إطلاق العنان ليد القتل في منطقتنا، سواء بالتستر على على المشروع الصهيوني قرابة قرن من زمان، أو استهلاك الشاشات وأشرطة الفيديو في الحديث عن المعركة مع الإرهاب التي لا يعرف مبتدأها من خبرها. للأسف، ما حصل في الموصل ليس إلا تحطيم ما حُطّم منذ 2003.

المساهمون