ثلوج المهمّشين في تونس: ميسورون يحتفون بالبرد والفقراء يموتون

ثلوج المهمّشين في تونس: ميسورون يحتفون بالبرد والفقراء يموتون

11 يناير 2015
سكان تونسيون ينتظرون الحصول على مساعدات (فتحي بلايد/فرانس برس)
+ الخط -
شهدت تونس، خلال الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، موجة برد استثنائيّة أعقبها تهاطل ‏الثلج بكثافة في مناطق الشمال التونسيّ. هذا الحدث الاستثنائيّ في البلاد، جعل المئات من العائلات ‏الميسورة تتدفق إلى المحافظات الشمالية لالتقاط صور للذكرى عجّت بها صفحات التواصل ‏الاجتماعيّ. ولكنّ خلفيّات الصور عرّت حقيقة المعاناة التّي يعيشها سكان تلك المناطق وبيّنت مدى ‏الجور الذّي لحق بهم من الطبيعة ومن الحكومات المتعاقبة التي أسقطتهم من حسابات التنمية‎.‎ 

عزلة وحصار
يعلّق الخبير مصطفى الجويلي: إنّ المناطق التي شهدت تهاطل الثلوج بكثافة هي المناطق الأكثر فقراً في البلاد، فجندوبة والكاف والقصرين هي مدن منسيّة منذ الاستقلال، وهي محرومة من مخصّصات التنمية والتقسيم العادل لثروات البلاد. ويضيف، أنّ المسح الأخير، الذّي قام به المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعيّة، أثبت أنّ نسب الفقر والبطالة والأميّة في تلك المناطق هي ضعف المعدّلات الوطنيّة. حيث تبلغ في مدن الشمال الغربي والوسط الغربي نسباً مفزعة تتراوح بين 30% و40%. بينما يستمرّ تهالك البنى التحتيّة من طرقات وجسور وسط غياب شبه تام للدولة أو للمستثمرين الذّين يرون فيها مناطق منفّرة لا تغريهم.
وحول ظاهرة سياحة الثلج التي عرفتها تلك المدن، يشير الجويلي، إلى أنّه في الوقت الذّي كان أهل عين دراهم والقصرين يتجمّدون برداً ويتضوّرون جوعاً، كانت قوافل "السيّاح" تهبّ إلى المنطقة لالتقاط بعض الصور وسط الثلوج التّي يرونها متعة ويراها أهل تلك المناطق نقمة وعذاباً. ويلفت إلى أنّ التنقّل إلى تلك المناطق المثلجة وقضاء وقت ممتع في أخذ الصور والاستراحة في أحد الفنادق أو المقاهي أو المطاعم كلفته لا تقلّ عن 100 دولار كحدّ أدنى وليوم واحد، في حين لا يتجاوز دخل معظم أهالي تلك المدن والقرى النائيّة 150 دولاراً شهريّاً. ويحذر الجويلي من خطر التمادي في تهميش تلك المناطق وتناسيها، فالأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعية في غاية من السوء وتحوّلت إلى قنابل موقوتة قد تنسف في أيّ لحظة جهود الاستقرار وسير عملية الانتقال السياسيّ.

شبح الموت الأبيض
حجم المعاناة التي يعيشها أهالي تلك المناطق، يمكن اختصارها في حديث قامت به "العربي الجديد" مع الشاب عاشور القاهري أحد سكّان مدينة القصرين التي نالت نصيباً من موجة البرد الأخيرة. يروي القاهري واقعة لامرأة توفيت في منطقة معزولة تسمى "القوسات" وظلّت الجثّة دون أن تدفن ثلاثة أيام بفعل العوامل المناخية القاسية من جراء تراكم الثلوج وصعوبة الوصول إلى هذا المنزل. ولم تجد العائلة طريقة لدفن تلك السيّدة التي ماتت من شدة البرد والجوع سوى حفر قبر بجانب المنزل وغسلها بماء الثلج بعد إذابته. ويؤكّد عاشور أنّ التعاطي الإعلاميّ مع معاناتهم يثير سخط أهالي المنطقة، فبينما كان الناس يتجمّدون من البرد ويتضوّرون جوعاً، كان الإعلام الرسميّ يتحدّث عن الحركة السياحيّة والتجاريّة وفرحة الناس بهذه الظاهرة "الجميلة" بحسب تعبير الإعلام الحكوميّ.
ويستطرد القاهري "يبدو أنّ كاميرات القنوات التلفزيونية في تونس لا ترصد سوى متعة السيّاح وفرحتهم، بينما تتعامى عن مأساة أهالي القرى الذّين لم يكسبوا شيئاً من موجة البرد هذه سوى المزيد من المعاناة. ويضيف، أنّ ما يحدث في الساحة السياسيّة والإعلاميّة من احتفاء بموجة البرد والثلوج أمر مثير للسخرية والغضب. فالجميع يتحدّث عن روعة المشهد الطبيعيّ في هذه الجبال، ولكن لا أحد يشير إلى بؤس قاطنيها وعذاباتهم.
ويختم عاشور: إنّ مدينة تالة المجاورة عاشت مأساة بأتم معنى الكلمة، حيث عُزلت عن بقيّة المحافظات نتيجة تراكم الثلوج على الطرقات وظلّت لأيّام تعاني من انعدام الغاز وانقطاع الماء والكهرباء بالإضافة إلى نفاد مخزونات المدينة من الحليب والخبز.

تهميش حكومي
ويعلّق الخبير شيحة قحّة: إنّ الوضعيّة المزريّة للمناطق الجبليّة في تونس ظلّت غائبة عن برامج مختلف الأحزاب والسياسيّين، وحتّى جولاتهم الانتخابيّة أسقطت تلك القرى النائيّة من حساباتها. لذلك فإنّ تلك القرى تمثّل المنطقة المظلمة في تونس حيث تغيب الدولة تماماً سواء على مستوى التنمية أو معالجة مشاكل أهالي تلك المناطق، وهو ما يمثّل مناخاً ملائماً لترعرع النقمة على كلّ ما له صلة بالدولة.
ويضيف شيحة، أنّ موجة البرد الأخيرة كشفت حجم الظلم الذي عانى منه أهالي مناطق الشمال والوسط الغربي خلال عقود، فهشاشة البنى التحتيّة وغياب دور فاعل للدولة والإدارة كانت من العوامل الحاسمة في تعميق ارتدادات المناخ القاسي الذي عرفته تلك القرى. حيث عزلت هذه الأخيرة تماماً عن العالم الخارجيّ نتيجة انقطاع الطرق وتوقّف إمدادات الكهرباء. كما أنّ خزّانات المياه تجمّدت نتيجة موجة البرد مما تسبب في انقطاع المياه عن عشرات القرى الصغيرة.
المأساة لم تتوقّف عند هذا الحدّ، حسب تعبير شيحة، بل أدّى انقطاع الماء والكهرباء إلى توقّف عمل المخابز وغياب المواد الاستهلاكيّة الاساسيّة بالإضافة على تعطّل الدروس نتيجة إغلاق الطرق. وتزداد معاناة أهالي القصرين والكاف وجندوبة ومكثر أمام غياب وسائل التدفئة، فالبترول الأزرق ارتفعت أسعاره بشكل جنونيّ في تلك المناطق نتيجة للاحتكار والمضاربة. أما الخشب فهو بدوره أصبح صعب المنال بالمقارنة مع الإمكانيات المحدودة للأهالي. أما الدولة فيبدو أنّها غير معنيّة بتلك المآسي بقدر اهتمامها بالترويج لجمالية تلك الجبال وإمكانية استغلال الثلوج من أجل الترفيه وتنشيط الحركة السياحيّة.
العامل الأخير الذي يزيد من معاناة أهالي تلك المناطق، هي إحساسهم بالتهميش والمهانة نظراً لكون معاناتهم غائبة عن مشاغل الحكومات المتعاقبة والمواطنين العاديّين على حدّ سواء. فمئات الدولارات التي صرفتها العائلات الميسورة للتنقّل والتقاط الصور وسط الثلج، كان يمكن أن توجّه لمساعدة الأهالي الذين أجبروا على ملازمة منازلهم وتحمّل الجوع والبرد إلى حين إعادة فتح الطرقات. ولكنّ صورة على "فيسبوك" تبدو أهمّ بكثير لدى البعض من أنّات الجوع والفقر التي تصدر عن أهالي تلك القرى المنسيّة.

دلالات

المساهمون