محسن جاسم الموسوي: ألف نقد ونقد

محسن جاسم الموسوي: ألف نقد ونقد

21 أكتوبر 2014
+ الخط -
- ما الذي قادك إلى اختيار”ألف ليلة وليلة“ موضوعًا لأطروحة الدكتوراة؟
عندما ذهبتُ لدراسة الدكتوراة عام 1973، كانت مرحلة السبعينيّات في ما يخصّ الدراسات العربية والإسلامية، ما زالت استشراقية، إذ اهتمّ المستشرقون الغربيون الكبار بدراسات الأدب الكلاسيكي العربي، الذي ينتهي في ظنّهم عند المتنبي. أما الاهتمام بالآداب الحديثة في جامعات بريطانيّة، مثل أوكسفورد وكامبردج تحديداً، فكانت مرحلةً تاليةً اقترنت بوجود بعض الأسماء العربية كمحمّد مصطفى بدوي وغيره من الذين شغلوا منصبًا في تلك الجامعات. لكن التحوّل لم يكن قد بدأ بعد في أميركا الشمالية. آنذاك كان المتنورون من دارسي الاستشراق والاستعراب مثل ياروسلاف ستتكيفتش يعنون كثيراً بالشعر، والقديم منه أولاً. أمّا الآداب الأخرى، كالحكاية والرواية والقصّة والمقالة، فلم تكن تأخذ حيّزًا واضحًا لديهم. ومن هنا كان اختياري. كانت الجادّة المناسبة في حينه، لأن الذائقة الغربيّة، في السبعينيات، كانت ما تزال مشدودة للّيالي، حسب اعتبارات التراكم المعرفي الذي جرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
- كيف كان الاحتكاك الأوّل مع ”ألف ليلة وليلة“ في هذين القرنين، وهل ثمة اختلاف بينهما؟
شكّل الاحتكاك الأوّل تحديًا وصدمةً للمثقّف الأوروبي. فقد زوّدت الليالي الروايةَ الأوربية الحديثة، بآليّات وأدوات جديدة لم تكن مألوفةً في حينه إطلاقًا. كانت بمثابة دفقة، لدرجة أن الروائيين وكبار الكتّاب أُخذوا بذلك واهتمّوا بها بشكلٍ كبير. من الصعب أن نجد في هذين القرنين شخصيةً مرموقةً لم تقرأ الليالي. كانت هناك حركة استقبال قوية، مما أدى ببعض المجلات الفرنسية والبريطانية إلى نشرِ ترجماتِها على مدى ثلاث سنوات. ثمّ تُرجمت الليالي في القرن التاسع عشر مرّة أخرى، لكن تمّ التركيز على الواقعية في الحكاية. وهذا مرتبط بالمرحلة التاريخية، وخاصّة بالاستعمار والبرجوازية المتعاظمة آنذاك، التي أخذت تهتمّ أكثر بما تعدّه من معلومات عن الشرق. قدّمت الليالي لهم الكنوز، فمنها عرفوا أن الحرفيين والفنانين لهم قدرة كبيرة على تغيير المجتمعات. ولا ننسى أننا نتحدّث هنا عن حركةٍ استعماريةٍ تبحث عن المعلومات بقوة، فما كان متوافراً وقتها كأدب الرحلات، لم يقدّم المعرفة الفعلية الكافية، فجاءت الليالي، وأخذوها على محمل الجدّ، كأنها الواقع الشرقي، لدرجة أن باحثًا جديًا وعظيمًا كفولتر باجت صاحب مجلة ”ناشيونال ريفيو“ التي تحوّلت بعد حين إلى مجلة ”إكونوميست“ الشهيرة، كتب مقالة عن أن الليالي هي الصورة الفعليّة للثقافة العربيّة والشرق، بل للإسلام أجمع.
-إلى أي مدى ترى أن النقد الأدبي في العالم العربي تمكّن من التحرّر من التبعية للمدارس النقدية والأدبية الغربية؟ أيُمكن الحديث عن مدارس نقدٍ عربيّة؟
هو لم يزل تابعًا، لأن عالميّة الفكر حتّمت مثل هذه الطريقة، أي المزاوجات الكثيرة بين قراءةٍ وأخرى. ولكن هناك نتاجات تمكّنت من تطوير آلياتها، عندما نقول، مثلاً، إن عبد الفتاح كليطو يعدّ ناقداً، فهذا صحيح. لماذا؟ لا لأنه استند إلى المدرسة الفرنسيّة كثيراً، بل لأنه تمكّن من الإتيان بقراءة جديدة، وإن اعتمدت على البنيويّة الفرنسيّة. الحركة كحركة لا تتحقّق إلا إذا تحقّق الإنتاج المعرفي، الذي لا يرتبط فقط بشخصٍ معيّن أنتج كتاباً. نحن لا نتحدّث عن فترة النهضة، عندما كان بإمكان مثقّف كطه حسين، أن يكون فاعلاً وهَرَماً، وكان الظهور والامتياز ممكنين. لقد حدث تغيير، إذ تعرّضت الدولة الوطنية لإنهاك. فقد جاءت بُمثلٍ يتصوّر الزعيم أنه هو الحامِل لها، ويعدّ الاعتراض عليها جريمة. كما أنه لم يعتد على نقدها أو الاستماع إلى آراء الآخرين حولها. إضافة إلى ضعف المؤسسات، التي كانت فترة بنائها أصلًا قصيرة، وتمّ تحطيمها في مصر وسورية والعراق وأجزاء من المغرب العربي. وإن لم يحدث هذا التدمير لمؤسسات الدولة بشكلٍ تلقائي، فقد كان يحدث بالقوّة. وهذه كانت مرحلة الخمسينات الستينات.
- لكن هذه الفترة، أي فترة ضعف المؤسسات، هي نفسها فترة بنائها من جديد بعد حصول عدّة دول عربية على استقلالها، هل يمكننا الحديث عن ضعف إن لم يكتمل البناء أصلًا؟
نعم، وهنا بالضبط تكمن الإشكالية. لا يمكن أن تأتي بضبّاط عاونوك على الثورة لكي يقوموا ببناء الدولة. البلدان الثرية في العالم العربي تشكّل وليمةً ثريةً للغرب. والدولة الوطنية تموت وتتآكل من الداخل، وفي السبعينات بدأ الاعتراك. ينبغي أن نعترف أن الاستثناء كان مع أشخاص كالحبيب بورقيبة، رغم كل الإشكاليات التي تقرن بفترة حكمه الأخيرة، فهو حاول أن يقلّد المشروع الفرنسي ونجح في ذلك إلى حدّ ما، وتمكّن من بناء مؤسسات، الأمر الذي لم تنجح فيه الدول العربية عموماً. أما النموذج الناصري، فهو نموذج الضابط المتنور الذي يمتلك الحسّ بضرورة التحرّك والتعليم، وسعى إلى ذلك، وكذلك عبد الكريم قاسم. لكن كلّ هذه المحاولات لم تكن ناضجة كفاية.
المرحلة الأخرى التي أدّت إلى ضعف الدولة الوطنية هي دخول النفط والعولمة على الخطّ. العولمة فتّتت ما تبقّى من بنيان للدولة الوطنية، ومع هذا التفتّت دخلت مشاريع جديدة. وسائل التواصل الاجتماعي حقّقت شيئاً آخر، أي تفتيتًا واسعًا ومعرفةً مختلفة الشأن، وقادت إلى تكيّفات أخرى في داخل الفهم لمعنى المركزية الأدبية. أي أننا لم نعد نتحدّث عن مركزية عربية كما كنا نتحدّث عن فترة النهضة، حيث كانت المركزية في القاهرة أوّلاً، ولها، وأسماء لامعة معروفة. صحيح أن انتهاك ذلك جاء على سبيل المثال في العراق، عندما جاءت الحركة الشعرية عند بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وغيرهم، ولكن كيف تمكّن هؤلاء من الانتشار؟ من خلال المجلات في لبنان، التي نقلت مركزيّة الثقافة إليها. أي أن لبنان أخذ الضعف الذي انتاب مصر ثقافياً في الخمسينات والستينات، ونقله إليه. فأصبحت بيروت المركز الفعلي للإشعاع الفكري والثقافي العربي. مع هذا الفعل وانعدام المركزية التدريجية، انعدمت المركزية في النقد الأدبي، وأصبحت هناك تيارات ومدارس مختلفة، لا يجمعها جامع. وجاءت المشكلة التي اقترنت بالعولمة واتجاهاتها وعولمة الاقتصاد، وما رافقها من هجرات ومنافي ونزوح العرب إلى مناطق أخرى خارج بلدانهم.
-تقصد الهجرات الاقتصادية والسياسية إلى الدول الغربية؟
نعم، الخروج الذي دفعت إليه الحروب والأوضاع المختلفة، أدّى إلى تفتيتٍ واسعٍ في متن الثقافة العربية، ولهذا نتحدّث عن تيارات متفاوتة لا يجمعها جامعٌ واضحٌ باستثناء بعضها. ممكن أن نرى اتجاهات سرديّة وليس نقديّة. على سبيل المثال أصبح السرد سرداً موحشاً غابت عنه نكهة الضحك والفكاهة، وتحوّل إلى سوداويّة عالية تقترن بالانتهاك الكلّي للجسد الذي حصل من خلال الحروب. كنا نتحدّث سابقًا عن انتهاكات محدودة للجسد الإنساني؛ امرأة مظلومة، وشخص ظُلم وما إلى ذلك. لكن الآن تحوّل الجسد إلى جزءٍ منتهكٍ كاملٍ، ممثّلًا لبلد بأكمله، كما يحصل في العراق.
- بدأت الحركات الأدبية في أوروبا منذ عقود بالتركيز على ”الجسد المنهك المتآكل“، كما عند فرانز كافكا، ما رأيك؟
كافكا هو غربة الإنسان من الداخل. هي غربة المبالغة في التأسيس في المؤسساتية التي غلبت وزادت عن حدّها فانتهكت حرمة الفرد. حاول صنع الله إبراهيم أن يأتي بشيءٍ مشابهٍ، ولكن من زاوية أخرى. وكان مؤدّيًا وناجحًا في كتابه ”اللجنة“. لكن الانتهاكات الفردية في المجتمع العربي ليست بسبب زيادة المؤسساتية، بل بسبب انعدامها. لقد كانت مؤسسات الدولة ضعيفة أصلًا، ثمّ انفرطت وبدأت بالتهاوي والاضمحلال.
-ما الفيصل في ذلك؟ أهي النكبة أم قبلها أم ما بعدها؟
نعم من نكبة فلسطين ثم النكسة ثم الدمار. سواء كان في فلسطين وتشتّتها والدمار الفعلي، ثمّ نقل التجربة الفلسطينية إلى الجسد العربي عموماً، واحداً بعد آخر، ووقوف العرب أنفسهم كمتفرجين أو مشاركين في الوليمة، في الدمار. يعني لا توجد أمّة تتآمر على نفسها كما العرب. وهذا قديم بالمناسبة، رغم أنني ضدّ فكرة ”الجوهرانية“ التي ترى أن هناك جوهراً لطبيعة الأمم والجماعات، لكن أرى أن العقلية القبلية كمرضٍ عقلي لم تزل قائمةً، لأن التناحر والبحث عنه أصبحا يأخذان أشكالًا مختلفة، لدرجة أنه يمكن التعويل عليها كثيراً في السياسات العالمية، إذا أُريد لبلدٍ معين أن ينتهي. كل ّالعالم يتألّف من جماعات وأفراد، ولكن العالم برمّته أخذ يتجاوزهذه التكوينات نحو تكوينات أوسع، مؤسّسات وقوانين واعتبارات حلّت محل ذلك. أمّا عربياً فمصلحتي الاقتصادية تدفعني إلى التآمر على البلد العربي الفلاني.
أليست المصالح هي التي تحكم العلاقات بين الدول كذلك في الغرب؟
لكن لديهم مؤسّسات. المشكلة أن تلك الأنظمة والدول، أي الغرب عموماً، امتلك المؤسّسات والقوانين. فحتّى لو تمّ انتهاك في هذه المؤسسات، فإن الشخص المنتهِك سيُحاسب.
- في 2009 أصدرت كتاباً بالإنكليزية عن الإسلام الشعبي بعنوان ”إسلام الشارع“، لماذا؟
سألتُ نفسي: لماذا أخفق مشروع النهضة العربية؟ وجدت أنّ الإخفاق الفعلي كان بسبب القطيعة بين الريف والمدينة. أي أن المثقف تعالى على أصولِه ونظر إليها باحتقار، كما فعل طه حسين في”الأيام“ حيث تعالى على القرية. اختفى الإيجابي. هذا الحسّ بالتحوّل والاستعلاء خطيرٌ جداً في النهضة. هذه المشكلة دفعتني إلى التفكير أن السخرية من المعتقدات الدينية الشعبية أوجدت قطيعة مع الناس. بكلمات أخرى لا يهمّ في نهاية المطاف، كيف وماذا تقول أنت كفقيه للناس. هذه الفئات الشعبية تحتاج إلى أن تُفهم لا أن يُسخر منها. ”إسلام الشارع“ هو المسعى لإعادة قراءة هذه الأشياء والكتابات والسرد، والتنبيه إلى المحنة التي دفعت الناس إلى ما نحن فيه، سواء كردود فعلٍ قاسية، كما تفعل جماعات دينية معينة كـ"داعش" عندما تسخر من كل ما هو دينٌ شعبي متوارث لأجيال، أو كما فعل مثقف النهضة.
الإصلاح كان أساسياً في مشروع النهضة وكان ينتقد الدولة الوطنية وبداياتها والضعف الذي انتابها، كان المثقف يشعر أنه هو حامل الراية. الدولة الوطنية تسمح بمراعاة الإصلاح ولا تسمح بالتمادي، وبدأ التهديد الفعلي للمثقفين والقتل، ولهذا بدأ المثقف في الكتابة العصيانية، خصوصاً أدب المنافي والمحن، حتى ولو كان نقداً، فقد كان عصياناً في ردّ فعل المثقف إزاء الانتهاكات التي ارتكبت بحقه.

المساهمون