معضلات بناء دولة تحت الاحتلال

معضلات بناء دولة تحت الاحتلال

31 يناير 2016
مدرسة في غزة، أيلول 2015، تصوير: عبدالرحيم الخطيب
+ الخط -

يبدو سؤال "ما العمل؟" الأكثر تداولاً في الساحة الفلسطينية في الزمن الراهن. ويتفرع هذا السؤال المركزي إلى عشرات الأسئلة الفرعية، مثل ما العمل على صعيد تحقيق الاستقلال باعتبار أن أولوية التحرّر محل إجماع وطني؟

هنا يبدأ التفكير في البرنامج والوسائل والاتفاقيات الناظمة للفعل الداخلي، كوثيقة الاستقلال ووثيقة الاتفاق الوطني وكل الاتفاقيات الموقعة بين الأطراف الفلسطينية الفاعلة على الساحة الفلسطينية.

ومن الطبيعي أن يرجعنا سؤال "ما العمل" إلى منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها جبهة التحرير العريضة التي كانت تضم كل مكونات العمل السياسي بغض النظر عن حجم التعارضات القائمة، وهي التي أخذت على عاتقها مهمة تحقيق الاستقلال منذ منتصف ستينيات القرن الماضي.

وأصبح سؤالها مهماً بعد أن شهدت الساحة الفلسطينية قدرا من الانزياح، فقد ولدت فصائل أثبتت حضورها في الواقع الفلسطيني، وتراجعت فصائل وغابت أخرى، وبقيت تركيبة المنظمة كما هي، وتلك كانت أحد مؤشرات الأزمة، وهي واحدة من مجموعة أزمات أخرى.

لكن ثمة أسئلة أخرى أصبحت حاضرة بفعل واقع حكم الفلسطينيين لأنفسهم، والتجربة التي مورست خلال العقدين الأخيرين وسمحت بتجريب نوع ومستوى الحكم الفلسطيني، وفي لحظة خطأ ما سمحت بإعطاء نموذجي حكم للفلسطينيين: حكم الوطني بسلبياته وإيجابياته، وحكم الإسلاميين ممثلا بحركة حماس في قطاع غزة.

وتلك التجربة استولدت عشرات الأسئلة في ذروة الصراع مع إسرائيل، منها أسئلة النظام السياسي والقانون والحريات والتنمية والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان، أي ثقافة الحكم بالنسبة للفلسطينيين.

تلك الأسئلة الكثيرة لمنحيي التحرر الوطني والديمقراطي لا ينفصل أي منها عن الآخر. ويزداد تعقيد الأزمة نظرا لفرادة الحالة الفلسطينية التي شكلت سلطتها تحت الاحتلال. فهل يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية في ظل انعدام اقتصاد وطني وتحكم الاحتلال بمفاصله؟ وهل يمكن الحديث عن تنمية في ظل سيطرة الاحتلال على ممكناتها وأذونات العمل بها؟

إن مدينة روابي في الضفة الغربية نموذج واحد، وإعمار غزة نموذج آخر. فكل شيء فيهما يخضع للشروط الإسرائيلية. من هنا تولدت منذ حكم الفلسطينيين لأنفسهم معادلة في غاية الصعوبة والخطورة طرفاها الاستقلال والحياة الإنسانية.

فإذا ما أراد الفلسطينيون رفع سقف التصدي والمقاومة سعيا نحو الاستقلال فقدوا ممكنات الحياة: "رواتب - معابر - كهرباء - تنسيق مدني وتحويلات إلخ.

وإذا ما أرادوا تأمين أدنى ممكنات الحياة الإنسانية عليهم الالتزام بشروط الهدوء أو الهدنة أو التنسيق، أي الكف عن البحث عن ممكنات الضغط على المحتل ليتحقق الاستقلال. سنحاول التوسع في ما يلي في سؤال التنمية.

هل يمكن الحديث عن عملية تنموية؟ هل يمكن أن يكون الحديث عن عملية تنمية عادياً في الواقع الراهن بتعقيداته؟ وهل هي ممكنة؟ التنمية أولا وقبل كل شيء تعني الاستقلال في القرار الذي يؤسس ويصاحب خطط التنمية وإجراءاتها. والشكل الأول والأبرز والأكثر تعبيرا عن العملية التنموية هو التنمية الاقتصادية، فهل يمكن تحقيقها في ظل تحكم الاحتلال بكافة مفاتيحها؟ هل يمكن الحديث عن البنية التحتية في الضفة الغربية مثلا في ظل تحكم الاحتلال حتى بتفاصيل إنشائها؟

لقد وضعت اتفاقية باريس التي تمت صياغتها بدهاء كبير كل ممكنات التنمية الاقتصادية في يد دولة الاحتلال، وما ينطبق على الضفة الغربية ينطبق بشكل مشابه على قطاع غزة بل ويزيد التحكم في إعادة الإعمار لما دمرته الآلة الإسرائيلية في العدوان الأخير. من هنا يبدو الحديث عن تنمية اقتصادية يقرر فيها المحتل كل شيء حديثا منفصلا عن الواقع.

ولأن الاقتصاد هو الأساس المركزي الذي يحدد أفق التنمية في المجالات الأخرى إذاً نحن أمام حائط من الصد الإسرائيلي لأي آفاق تنموية في أراضي الدولة. لكن هل يعني ذلك الاستسلام لما هو قائم والتسليم بالأمر الواقع؟

التسليم بذلك يعني الجمود أو التراجع، ما يعني أن تصبح فلسطين طاردة يبحث أهلها عن حياة خارج فلسطين وفي هذا خطورة كبيرة أو خطر استنزاف للمشروع الوطني وتآكل في رأسماله الذي يكاد يكون الوحيد وهو العنصر البشري.

ما العمل إذًا؟ هل يمكن اشتقاق عملية تنموية حتى في ظل الاحتلال؟ ممكن بالحد الذي يسمح بأن تكون عملية التنمية جزءًا من المقاومة لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني. وبالرغم من الترابط الشديد في البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني وبنيته الفوقية (الثقافة – الوعي) إلا أن العمل على تعزيز وعي وطني بإمكانات اقتصادية متوسطة هو مهمة كفاحية بالدرجة الأولى.

هناك نواة اقتصاد وهناك حرية لدى مؤسسات المجتمع المدني وهناك مؤسسات دولة فلسطينية الأداء بامتياز تتحكم بآلية العلاقات البينية وبالحالة الثقافية وبتكوين الوعي بالمنهاج التعليمي، وكل ذلك يمكن وضعه في إطار خطة وطنية تعمل بمسارات متعددة لإعادة تشكيل الوعي الوطني بما يضمن تعزيز ثقافة الحوار والمشاركة واحترام الآخر وتنمية مجموعة القيم التي تضمن نموذجا يحترم حقوق الإنسان وتنمية قيم المساواة والعدالة الاجتماعية عدا عن الاهتمام بالتراث والثقافة الوطنية.

والسؤال هل تضمن المناهج الدراسية لكافة المراحل التعليمية منظومة القيم تلك بالتدرج؟ هل تعمل مؤسسات المجتمع المدني على تعزيز تلك القيم؟ هل تعمل النقابات والاتحادات والأحزاب لتعزيز ذلك؟ هذا لا يتحكم به الاحتلال.

إن نظرة سريعة إلى كل المكونات آنفة الذكر لا تعطي دلالات تؤكد ذلك سواء كل واحدة من تلك المكونات أو على صعيد التنسيق بينها. ربما أن عملية البناء والتنمية في هذا المجال تكاد تكون هشة بل إن بعض المؤسسات كالأحزاب لعبت دورا ليس بالإيجابي لتعزيز القيم الفردية والحزبية العشائرية في ارتداد خاطئ لمفاهيم العمل الجمعي حتى بتنا أمام مشهد تعتقد فيه كل قوة سياسية أنها وحدها حاملة المشروع وأمينة عليه ويؤمن مؤيدوها تمام الإيمان بذلك.

أما عن التنسيق بين الأحزاب ومؤسسات المجتمع فيكاد يكون ضعيفا إذا لم نقل إن بعض الأحزاب التي كانت جزءًا من تجربة الحكم وقفت موقف الخصم من مؤسسات المجتمع المدني.

إن تنمية القيم عملية شاقة وطويلة، إذ يقول علماء الاجتماع إن أصعب أنواع التغيير هو التغيير الاجتماعي. وتجربة الانقسام الناتجة عن الصراع على السلطة لم يكن الأسوأ فيها أنها كانت على حساب المشروع الوطني بقدر ما أنها عكست أزمة قيم مخيفة عبر عنه سلوك الفصائل حين غابت لغة الحوار وحل محلها حوار السلاح وازداد الخوف أكثر مع كابوس الأحداث في الإقليم.

فماذا لو أصرت السلطة بكل قوتها على القتال ولم ينته الأمر في ثلاثة أيام؟ ماذا لو أن الوطن متواصل جغرافيا وظل التحدي والصراع قائمًا، هل سنكون أمام النموذج السوري؟

إن تنمية قيم المشاركة والمساواة وتداول السلطة حاجة ضرورية. ويمكن تقسيم التنمية إلى قسمين: الأول على صعيد البنية التحتية. الثاني على صعيد البنية الفوقية.

والبنية التحتية يمكن تقسيمها إلى قسمين: الأول؛ الإعمار ورصف الطرق وإنشاء المدن والمنشآت الصناعية والجسور والكباري وغير ذلك، وهذا متعلق إلى حد كبير بالاحتلال، وبالتالي فإن الحديث عن تنمية ما ممكن وبالحد المسموح به بإصرار الفلسطينيين على ذلك بما يجعل من هذه العملية عملية تثبيت صمود الشعب على أرضه بتوفير سكن مناسب وشوارع مناسبة وغير ذلك.

الثاني؛ ما يتعلق بالجامعات والمستشفيات، وهذا ممكن حتى في ظل الاحتلال، إذ بات من الواضح وجود فارق هائل في المستويين الصحي والتعليمي عن الدول الأوروبية وحتى عن إسرائيل، فالكثير من أبنائنا يرون في التعليم في الخارج ميزة كبيرة جداً، وكثير من المرضى الفلسطينيين يرون في العلاج في الخارج أو إسرائيل وسيلة لاستمرار حياتهم.

والسؤال لماذا بعد مرور عقدين على إنشاء السلطة ما زالت فلسطين خارج تصنيف الجامعات على مستوى العالم وبعيداً عن تصنيف أول 500 جامعة مثلا، وليس هناك تفكير بالمنافسة حتى أو تنمية التعليم وكأنه حلم بعيد المنال، والمستوى الصحي ليس ببعيد عن ذلك حيث يفضل حتى كثير من المسؤولين الفلسطينيين العلاج خارج فلسطين في حين أنهم هم المسؤولون عن المستوى الصحي وبناء المستشفيات.

وما ينطبق على التعليم والصحة ينسحب على كل مجالات الحياة والمؤسسات الخدماتية وعلى البنية الفوقية التي تشمل الثقافة والوعي والنظام السياسي والانتخابات ومنظومة القوانين والعلاقات بين الدولة والأفراد وحرية الرأي واحترام حقوق الإنسان وما ينبغي أن تبلغه من مستوى قادر على تأمين شراكة تحترم الآخر وتحترم المواطن بمساواة كاملة في إطار القانون.

ولا شك في أن كل القضايا مترابطة إلى الحد الذي لا يمكن فصلها عن بعض، فالدولة تعني الاستقلال، والاستقلال هو ما يؤمن ممكنات التنمية، والبنى التحتية هي ما يؤمن نظام حياة صحيا وتعليميا أفضل، والنظام التعليمي يؤمن سلوكا ثقافيا مختلفا وهذا السلوك أقرب لاحترام القانون، والقانون يضمن المساواة واحترام حقوق الإنسان ويضمن نظاما سياسيا قائما على التعددية والمشاركة، وتلك قادرة على أن تضمن تنافساً سياسيا وخدماتيا لتقديم أفضل الخدمات وإنشاء أفضل المستشفيات والجامعات والبلديات.

شكل الدولة الفلسطينية
يمكن القول إن التجربة المنصرمة تسببت بنضوج التساؤلات لدى الفلسطينيين حول شكل الدولة. ونبع ذلك النضوج من مسألتين هامتين: الأولى، أن تجربة عقدين من حكم الفلسطينيين لأنفسهم بما شابها من أخطاء رفعت وتيرة الحرص والخوف من إقامة منظومة إدارة الدولة المستقبلية استنادا لتلك التجربة.

أما الثانية فهي ظهور طرفين متنافسين في الساحة الفلسطينية بقوة التوازن أحدهما الحكم الوطني الليبرالي إلى حد ما في مجال الحريات الفردية والآخر الإسلامي ممثلا بحركة حماس في قطاع غزة، والذي اعتبر كثيرا من الحريات الفردية مخالفات دينية. لكن النظامين بشقيهما الوطني والإسلامي يتسمان بملاحقة الحريات العامة والتضييق عليها.

صحيح أن الاحتلال حال دون إنضاج تجربة قادرة على إعطاء أفضل ما لديها بفعل تحكمه في كل شيء وعلى رأسه الاقتصاد الذي يلعب دورا مهما في بناء الدولة وبناها التحتية وضمان دخل قومي أعلى يساهم في رفع مستوى الفرد ويعتبر عنصر الارتكاز الرئيسي حتى في منظومة القيم إلى الدرجة التي يحدد فيها توازن الأفراد وسلوكهم الثقافي، لكن هناك أخطاء جسيمة تم ارتكابها لا علاقة للاحتلال بها نهائيا وذلك في إطار منظومة الإقصاء والتهميش وعدم تقبل الآخر وانحدار مستوى حقوق الإنسان والاعتقالات السياسية وكثير من الممارسات الصادمة التي ظهرت وكأنها تعيد استنساخ التجربة العربية الأمنية بتفاصيلها وربما أكثر قسوة في لحظة من اللحظات.

كل هذا رفع مستوى القلق حول نمط ثقافة الحكم السائد. ومن هنا بدأ البحث لدى مؤسسات المجتمع المدني لتعزيز مفاهيم جديدة لم تكن موجودة قبل الحكم الفلسطيني كالمساواة والعدالة وتعزيز القانون وغيرها.

لم يكن الفلسطيني حالة استثنائية في المنطقة فهو ابن طبيعي لثقافة الاستبداد وإن لعب الاحتلال دورا كبيرا في عدم بروزها، لكن ما إن حكم الفلسطيني نفسه حتى اتضح أنه وريث للحالة العربية ونتاج وعيها، وكان السؤال إذا كان هذا كله يُمارس ونحن لم نصل للاستقلال بعد فكيف سيكون الحال في ما لو أقيمت الدولة وما شكل الدولة وعلاقاتها البينية وآليات الحكم ومفاهيمه؟


خيارات الأمل..خيارات اليأس
علّمتنا الكثير من تجارب التاريخ أن الضغط على المحتل وتحفيز قوى داخل مجتمع الاحتلال تقوم بالضغط على نظامه السياسي لإنهاء الاحتلال هما من الوسائل الضرورية لإرغام المحتلين على الرحيل، وهذا يتأتى أساسًا عن حجم الخسائر التي عانى منها الاحتلال على صعيد القوى البشرية والإمكانات العسكرية والاقتصاد والمال، أو بسبب عزل دولته.

ومن هذه التجارب تعلمنا مثلًا أن الثورة الفيتنامية انتصرت في واشنطن قبل أن تنتصر في هانوي حين خرج مئات الآلاف من المتظاهرين الأميركان في شوارعها مطالبين بإنهاء الحرب.

كذلك انتصرت الثورة الجزائرية في باريس قبل أن تنتصر في الجزائر حين خرجت الجموع الفرنسية مطالبة بإنهاء الاحتلال الفرنسي.

وإذا كانت الولايات المتحدة وفرنسا مثلتا احتلالًا مؤقتًا للفيتنام والجزائر ولم تكن لهما طموحات بتهجير سكانهما، فإن إسرائيل على العكس من ذلك لديها مخططات لا تتوقف للاستيلاء على مزيد من الأراضي وإقامة المستوطنات حتى في داخل أراضي الدولة المفترضة للفلسطينيين، بل ويشكل الشعب الفلسطيني الموجود هنا "أزمة ديموغرافية" في حسابات العقل الإسرائيلية، فقد أقيمت الدولة بعد تهجير نصف سكان الإقليم الفلسطيني عام 48 ومن تبقى عادت المؤسسة الإسرائيلية تحلم بـ"تقليل" ما يمكن من سكانه لضمان تمدّد دولة الاحتلال.

ما زاد طين الفلسطينيين بلة أخيرًا هو ما حصل عام 2007 من أحداث مرتبطة بالانقسام أضعفت أكثر الجسد الفلسطيني الواهن بعد تلك المتاهة الطويلة التي صنعها الإسرائيلي، وإن كانت بمثابة نتاج طبيعي لنهاية تلك المتاهة إلا أن تداعياتها وجهت ضربة قاصمة إلى ظهر المشروع الفلسطيني بشقيّ تساؤلاته التحرري والديمقراطي وأصابته بانحناءة مزمنة في عموده الفقري.

لكنها كشفت عما كانت القيادة الفلسطينية قد وصلت إليه من خيارات وأهمها خيار التسوية الذي أخذ بالتراجع مع نهاية السنوات الخمس الأولى التي حددها اتفاق إعلان المبادئ بين الطرفين، فقد انحسر تأييد حل التسوية بالمفاوضات، وبدأ يتزايد مؤيدو العودة للعمل المسلح ولكنهم ليسوا أصحاب خيار التسوية، فتحركت حجارة الوادي في الشارع الفلسطيني وبرزت حركة حماس صاحبة هذا الخيار كمنافسة للسلطة وخيارها وهنا بدأت أزمة التعارض الشديدة، تعارض البرامج الذي أوصل إلى هذا الانقسام، حين توازنت القوتان في الشارع الفلسطيني على نحو سمح بالصدام.

بقي أن نذكر أن المشهد على المستوى الإقليمي كان يعيد صياغة العلاقة مع "إسرائيل" في إطار حالة الوعي العربية والفلسطينية أيضا، ففي اللحظة التي تنكرت إسرائيل للمدة الزمنية المنصوص عليها في الاتفاقيات للوصول لحل وبدت كأنها تتلاعب بالطرف الفلسطيني وبالمفاوضات إلى أن انتهت تلك الفترة دون التوصل لشيء، كانت على الجانب الآخر من الحدود في لبنان تسحب قواتها عام 2000 تحت ضغط المقاومة، وبدت الصورة التي علقت في أذهان الوعي العربي الفلسطيني صورة الجندي الفار وعملائه الذين يصطفّون في طوابير الهروب منتصف الليل، فتولدت قناعة المقارنة بأن إسرائيل لا تنسحب إلا بالقوة.

هذه الصورة رسختها إسرائيل بتلاعبها هنا، وهروبها مذعورة هناك، وكانت تلك مقدمة لإعادة صياغة ثقافة مهّدت لانتفاضة الأقصى التي اندلعت بعد انسداد خيار التفاوض في قمة كامب ديفيد الثانية.

وخلال تلك الانتفاضة كانت تتصادم الخيارات ويتصادم معها الفلسطينيون، وأصبحت خيارات الأمل هي نفسها خيارات اليأس التي بلغت ذروتها عام 2014 حين أغلقت إسرائيل آخر أفق للحل مع فرصة الأشهر التسعة التي حددتها الولايات المتحدة الأميركية وانتهت بلا شيء، ومع عدوان 2014 على القطاع الذي كان أداء العمل المسلح الفلسطيني فيه عاليا لكن الحرب انتهت باستمرار الحصار على القطاع، وكأن إسرائيل قالت للفلسطينيين خلال هذا العام "لن تأخذوا شيئا لا بالسلم ولا بالحرب"، وهكذا بدت الأزمة أكثر وضوحا ولكنها أكثر عمقا.

بعد تلك التطورات بدأت الأصوات تعلو أكثر باحثة عن إجابات لسؤال الانغلاق بين خياري "السلم والحرب"، وكل طرف فلسطيني ما يزال يتمسك بخياره الذي قالت إسرائيل كلمتها فيه، ولم يستطع الفلسطينيون إحداث ضغط على المجتمع الإسرائيلي، وتباعد أكثر خيار الأمل بالدولة. وهذا ما جاء في خلاصة بلورتها ورش عمل متعددة من خلال نقاشات مجموعات عمل عامة ومركزية للخيارات المطروحة اتفق المشاركون على أن "حل الدولتين قد دفن ولا يمكن العودة إليه".

لكن هذا الاستنتاج ربما يكون لحظيا أو منطلقًا من أزمة خيارات اللحظة التي زادتها تعقيدا أزمة الاضطراب الإقليمي وتراجع القضية الفلسطينية دوليًا، لكنه لا ينفي وجود المجتمع الفلسطيني على أرضه كمكون رئيسي من مكونات الدولة الأمر الذي من شأنه أن يفتح نقاشا حول شكل ومضمون وثقافة الحكم وآلية النظام المتبع باعتبار أن هناك شكلا أو أكثر لحكم فلسطيني قائم.

دلالات