صعيد مصر: تعذيب من أجل عيون "الشهادة"

صعيد مصر: تعذيب من أجل عيون "الشهادة"

29 يونيو 2015
عذبوه لأنه لم يرد التخلي عن ممارسة هوايته (Getty)
+ الخط -
رفع يديه إلى السماء شاكرا ربه وجرى بعيدا وسط أصدقائه كأنه طائر بأجنحة وردية، فلقد أحرز هدف الفوز في أهم مباراة لفريقه الصاعد، كان يتدرب طويلا وعلى مدار عامين كاملين حتى استحق وعن جدارة لقب "الهداف الأسمر" وذاع صيته وسط قريته المترامية الأطراف.

عاد الهداف إلى أمه فرحان منتشيا، وطار إلى حضنها يلتمس كأسا من تقدير وحنان، ولكنها صدمته بلطمة على وجهه ألبسته ثوب الخيبة والذهول، فلقد ضاقت بتصرفاته ذرعا فهو من وجهة نظرها فاشل ومقصر في دراسته، تركته ساجدا إلى الأرض يتلمس ملامح وجهها، وطارت إلى بيت عمه وقد أحرق الغضب بداخلها صفحات عديدة من الصبر.

طرقت الباب واستنجدت بعمه كي يأتي معها إلى ابن أخيه، فيكون له مربيا ومؤدبا ويجبره على الاستذكار ومتابعه دروسه، ولأن الأب سافر منذ سنوات يلتمس رزقا في أحد البلاد العربية، لبي العم النداء فورا.

شحنة غضب
دخل العم وقد تلقي شحنة كبيرة من الغضب أتته من شكوى زوج أخيه، فأفرغ هو الآخر ما بجعبته من سباب وشتائم تلقاها الولد في صمت، ولم ينطق سوى بكلمة واحدة (يا عمي أنا أحب الكرة ولن أتركها)، وما لبث العم أن اقتاد ابن أخيه إلى باحة البيت، وأوثق ساقه إلى نخلة وهدده بأنه سيبقى هكذا حتى يفيق إلى نفسه، ويترك ما أسماهم "شلة الفاشلين".

بكى الولد كثيرا بعد أن كسروا ما بداخله من عزة نفس ورجولة متنامية، وشجاعة كان أبوه قد زرعها فيه، كان الهداف الأسمر طالبا في الصف الثالث الثانوي الأزهري، كان يحفظ القرآن وكان يصلي، ولم يرسب قبل ذلك أبدا، كل ما هنالك أن ثقافة أهل الصعيد عن العملية التعليمية قد بنيت في أغلبها على أن (الشطارة هي أن تذاكر وتحفظ وتحصل على مجموع كبير يهيئك للحصول فيما بعد على وظيفة محترمة).

وهكذا ظل الأسمر موثقا حتي الصباح، كيف نامت عيون هؤلاء.. لا نعلم، ولكن الأم الجهول نزلت إلى موضع (تعذيب) طائرها الصغير فوجدته غائبا عن الوعي، طارت به إلى المشفى وهناك كانت المفاجأة بل الكارثة: لن يستطيع العصفور أن يرفرف بجناحيه الورديين، لن يستطيع الأسمر أن يكون سوى طالب مستمع فقط، ورغم عيني أمه وعمه، ما حدث أنه أصيب بالشلل التام في كلتا ذراعيه، صرخت الأم في ردهات المشفى وركعت إلى الطبيب ترجوه أن يعيد إلى ابنها حيويته وشبابه، يعيد إليه ساعديه.

ضياع الأسمر
كانت الصدمة شديدة الوقع على الجميع فتساءلوا: أفلن نرى الأسمر ثانية في ملاعبنا هلا أخبرنا أحد بما حدث؟ أو لم تكن معنا بالأمس سليما معافى وقد أحرزت هدف الفوز، ولقد جئناك اليوم بكأس رمزي تقديرا لموهبتك؟
لم ينطق الولد بكلمة واحدة قد تدين أمه أو عمه ولن ينطق بما حدث حتى لأبيه الحبيب، والذي سيفجع لأمر وحيده.

سارت الأمور إلى عكس مسارها، فلن يستطيع الأسمر أداء الامتحان لهذا العام، ولن يخوض مباريات دوري المدارس، ولا حتى سيكون أحد هؤلاء العباقرة الذين كانت تظن أمه أنه بكثرة المذاكرة يستطيع أن يكون مثلهم، إنه حتى لن يستطيع أن يمد يديه ليسلم على أبيه حينما يعود، كل ما يستطيع الهداف الأسمر فعله أن يجلس على (دكة) أسفل نخلته – حاضرة مصيبته – ليستمع إلى مدرس أحضره له عمه حتى يلقنه دروسه ليتمكن من أداء امتحانات الدور الثاني.

عودة الأب
وجاء وقت عودة الأب في زيارة قصيرة للأهل والأحباب، والذين بدورهم قد أعدوا حفلا صغيرا لاستقباله جهزوا الأرائك، وكان أول من جلس بها الهداف بعد أن ألبسته أمه عباءة جده فتغطى بها وتهدلت فوق ذراعيه، كان اللقاء صعبا حقا، وكان الاحتضان من طرف واحد فلم يستطيع الأسمر ضم أبيه ثانية، وكادت الأسرة تنتحر بكاء وحسرة لنظرات الأب المسكين وقطرات الندى قد غطت جبينه حرجا، فتساءل بحسرة كيف لابنه الصغير السن هذا أن يكمل حياته هكذا، هل التعليم والتربية تكون بتلك القسوة، ألم يكن هناك وسيلة أخرى للتوجيه والمتابعة غير التعذيب، ماذا كان سيحصل لو تركتموه يستمتع بالرياضة التي اختارها لنفسه ووجهتموه إلى متابعة الدروس في نفس الوقت.

وراء الميري
تلك القصة القصيرة والحقيقية والتي حدثت في إحدى قرى محافظة الأقصر، أكبر دليل على أن التعليم في جنوب مصر ما زال يلهث وراء الميري (الوظائف المعتمدة من الدولة وعلى رأسها ضابط الجيش) ولو تمرغ البعض في ترابه أو حتى لعقه بلسانه.

إجبار الصغار على الحفظ والاستذكار بفهم وبدون فهم، وإرغامهم على ذلك بكل طرق الترهيب لا الترغيب، ساعد في زيادة أعداد الطلاب المتسربين من التعليم، إضافة إلى ظهور عدد كبير من أنصاف المتعلمين، والذين يشكلون خطرا كبيرا على مجتمعاتهم، فأغلبهم يصل إلى مناصب ووظائف حكومية عن طريق (الواسطة) وللأسف الشديد هذه الوظائف هي في الغالب متعلقة بمهنة التدريس حتى تعاد الكرة من جديد لنخلق مجتمعا مقهورا وفاسدا وأميا بالوراثة.

النقطة الثانية والمتعلقة بسياق الفهم الخاطئ للعملية التعليمية، هو تفشي ظاهرة الغش في امتحانات النقل إن لم يكن في جميع المراحل التعليمية، والتي نلحظها في التعليم الأزهري في الصعيد أكثر من غيره، يذكر أحد طلاب كلية الطب بجامعة الأزهر، أنه ولولا فضل (البرشام) عليه لكان الآن في معهد الدراسات الإسلامية، وهو يعني بالبرشام طبعا ورقات صغيرة تساعده على الغش، الكارثة أنه كان يقول هذه المعلومة وهو فخور بأنه تمكن من خداع مراقبيه، والذين وصفهم في معرض حديثه بالـ "زومبي" أي من فارق الحياة وعاد بقوة خارقة.

ورغم اليقين بأن هذا الطالب الفاشل إذا ما تحايل مرة أخرى بدوره، واستطاع التخرج من كلية الطب فلن يصبح سوى كارثة بشرية تمشي على الأرض، إلا أننا نراه في نفس الوقت ضحية من ضحايا التعليم الخاطئ. لا بد أن تكون هناك حملات توعية لأهالي الطلبة حتى يتنبهوا إلى أفكارهم الخاطئة، ونظرتهم إلى التعليم على أنه مكتب تنسيق القبول.

اقرأ أيضا:
رسالة من طالب عربي أعيته مدارس الوطن

صرخة تلميذ محبوس.. أعيته أمه
"اضرب تلميذك وكسر عظامه".. هكذا أفضل
"أنا اسمي زفتة".. هكذا اعترضت الصغيرة


المساهمون