فاروق وادي: أقول أحياناً برضى وقناعة قارئ واحد يكفي

فاروق وادي: أقول أحياناً برضى وقناعة قارئ واحد يكفي

09 اغسطس 2016
الكاتب فاروق وادي (بإذن خاص)
+ الخط -
ما بين السرد الفني وممارسة النقد وكتابة الرحلة والزاوية الصحافية، إضافة إلى مزاولة الفن التشكيلي وأدب الطفل، توزّعت تجربة فاروق وادي (1949)، على مدار الأربعين سنة الماضية. الكاتب والروائي الفلسطيني يتحدّث لملحق الثقافة، عن مجمل تجربته، بمناسبة صدور كتابه الجديد "ديك بيروت يؤذن في الظهيرة"

* في عملك الأكثر شهرة "منازل القلب"، جمعت بين سيرتك الذاتية وسيرة رام الله المدينة، فكان الكتاب: "سيرة روائية". وكتابك السردي الأخير "ديك بيروت يؤذن في الظهيرة"، يمكن تصنيفه كمجموعة قصصيّة يجمعها المكان؛ بيروت، والزمان؛ زمن الحرب الأهلية، بحيث يجوز عليه الوصف: "رواية قصصيّة". التكنيك اختلف في الكتابين، لكن السرد هنا يبدو رائقاً وانسيابياً، ربما أكثر مما في الأول. أهو الحدث، وقد بعُدت عنه بما يكفي فتمكّنت منه، أم ماذا؟

لكل كتاب حدوده الأدبيّة وشروط كتابته، وبالتالي، تقنياته المختلفة. فـ"منازل القلب" سيرة مدينة وسيرة الشخص في المدينة؛ ثم تجربة النأي عنها، وحكاية العودة إليها بعد غياب قسري تجاوز ربع قرن. كتبته بناءً على طلب من الشّاعر الراحل محمود درويش. هو لم يطلب مني كتاباً، بل مادة مطوّلة لزاوية "ذاكرة المكان.. مكان الذاكرة" في مجلّة "الكرمل"، بعد أن عادت للصدور في الوطن.

غير أن الكتابة حينئذٍ أغوتني وأخذتني معها من دون ضوابط، فخرجتُ بكتاب رام الله، الذي لا أجرؤ على وصفه بالرواية، وإن فعل ذلك الدكتور عبد الرحمن ياغي، حينما درسه في أحد كتبه التي تناول فيها نماذج من الرواية في الأردن وفلسطين. ولكلٍ أن يجتهد في مثل هذا الأمر، غير أنني أرى بأن شرطاً أساسياً من شروط الرواية ينقص الكتاب ليكون كذلك، وهو "التخييل"، الذي غاب عنه تماماً، فالتزم السّرد هنا بالأحداث والوقائع كما حدثت في الواقع من دون تحريف، وبالأشخاص كما كانوا، أو كما هم، وبالمدينة في حدودها الجغرافيّة والتاريخية الواقعيّة.

أمّا "ديك بيروت يؤذن في الظهيرة"، فهو كتاب تخييلي يتكئ على أحداث شهدتها أو عشتها في المدينة زمن الحرب الأهليّة، أو خُيِّل لي أنني عشتها وشهدتها، وهو ينهل من شخصيات عرفتها أو خلت أنني عرفتها هناك، لكنني مارست هنا حريّة التخييل وجماليات الكذب وانطلاق السرد من دون ضوابط إلزاميّة يفرضها الواقع، ومن دون أن يعنيني الالتزام بالوقائع كما وقعت، أو بملامح البشر كما مرّوا في أيامي هناك. إنه عمل سردي من صناعة الخيال في النهاية، من دون أن أجهد نفسي كثيراً في أن أطلق عليه تجنيساً محدداً، رواية أو قصصاً قصيرة أو رواية قصصيّة. فالمهم دائماً هي القيمة الأدبيّة التي ينطوي عليها العمل نفسه، بغضّ النظر عن جنسه. أمّا القول بأن السّرد في العمل الأخير يبدو رائقاً أكثر من الأول، فهو رأي نقدي أحترمه.

* أيمكن اعتبار روايتك "رائحة الصيف"، سيرة روائية أيضاً، وخاصة أن هناك عدة عناصر في العمل توحي بذلك؟

"رائحة الصيف" رواية تستثمر أحداثاً من سيرتي الذاتيّة في الطفولة. فلا أخفي، ولم أخف من قبل، أن الطفل اللاجئ في الرواية، الذي دخل المستشفى وأجرى عمليّة وهو يحمل اسم طفل آخر، لأن عائلته فقدت، لسبب ما، بطاقة إعاشتها. هذا الطفل، في الواقع، من دون مواربة أو إنكار، هو أنا.

غير أن "رائحة الصيف"، أيضاً، تبقى عملاً تخييلياً بامتياز، رغم ورود أسماء بشر حقيقيين عرفتهم في حياتي وعرفتهم رام الله في زمن غابر يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي. وورود اسمي الحقيقي على لسان الطفل السّارد للتعريف عن نفسه، لم يكن لتأكيد جانب السيرة في العمل، بقدر الرغبة في إيهام القارئ بأن الخيال الذي تضج به الرواية ليس خيالاً، بما فيه مشهد الأعمى الذي يميّز بين الألوان بدقة مبصر، وهو نفسه البائع الجائل الذي يصعد بعربته إلى السماء ويختفي هناك إلى الأبد. كما سيصدّق ما حدث في الليلة المصطبغة بالزرقة والأرجوان التي حطّ فيها الغجر في حارة الفردوس. ثمّ ما حدث للشرطي الناحل الذي وجده الغبار ضامراً وخفيفاً فحمله معه إلى الفضاء. وكذلك ما جرى في إحدى الليالي في مستشفى "أوغيستا فكتوريا"، التي رأى فيها المرضى القمر المدور وقد تحوّل إلى صليب. وغيرها من التخييلات الجامحة التي قد لا تحتملها سيرة.

وعلى أي حال، فقد نشرت سلمى الخضراء الجيوسي فصلاً من الرواية في "أنطولوجيا الأدب الفلسطيني"، في قسم السيرة، من دون أن يؤثر ذلك على العمل سلباً أو إيجاباً.

* في روايتك "عصفور الشمس"، وهي من أكثر السرديات العربية تماسكاً فنيّاً وشعرية، تتجلى طريقتك المثلى في الكتابة: لا كلمة زائدة. من أين أتيت بهذه القدرة على التكثيف والحذف؟

عليّ في البدء أن أشكرك على مثل هذا الرأي النقدي حول "عصفور الشمس"، التي حظيت، لحسن حظها، بدراسة نقديّة ممتازة للناقد محمد عبد القادر، وأخرى للناقد فيصل درّاج، وكذلك دراسة للناقد هيثم سرحان، ناهيك عن عدد آخر من القراءات.
حول التكثيف، فإنني في كلّ ما أكتب، أطمح للوصول إلى درجة متوازنة ومقنعة من الاختزال وكثافة السرد. فالاختزال، والتكثيف القابل للتأويل، هي لغة الصوفيين الذين يسحرني نصهم الغني بالتأويلات، رغم ضآلة كلماته. ولا شك في أن الشيخ محيي الدين بن عربي قد علّمنا درساً بليغاً في هذا الجانب، عندما قال بكثافته المعهودة: "كلما اتسعت الرؤية.. ضاقت العبارة". غايتي، في كل ما أكتب، بلوغ كتابة تنطبق عليها مقولة ابن عربي هذه. ناهيك عن أن لغة الشعر، بجماليتها وغناها وكثافتها، تعينني على مثل هذا التكثيف والاختزال.

* كتابك النقدي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية"، صار مرجعاً في ما يخصّ الروائيين الثلاثة: غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، سواء تأريخاً أو نظرة نقدية. ما الدوافع والظروف التي وقفت خلفه؟

بدأت فكرة كتابة "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينيّة" كما تبدأ الأبحاث عادة، من فكرة عامة عريضة تطمح إلى تناول الموضوع (وهو هنا الرواية الفلسطينيّة) بالدراسة الشّاملة، كون السّاحة في ذلك الوقت كانت تفتقر إلى الدراسات النقدية حول هذا الموضوع. ولا يعني ذلك الغياب المطلق لمثل تلك الكتابات، وإنما اقتصارها على إنجازات محدودة ظلّت دوافعها أكاديميّة بحتة، ومناهجها البحثيّة كذلك. بمعنى أنها هدفت إلى الحصول على شهادات جامعيّة، ولم تأتِ في سياق طموح نقدي مستقل يواكب المحاولات الروائيّة في فلسطين والشتات في زمانها.

وكانت تلك الجهود الأكاديمية تأسيسية وضرورية مهدت لحركة قراءة الرواية لاحقاً.
أثناء انهماكي في القراءات الواسعة للأعمال الروائية الفلسطينيّة والغوص في ما أنتج حتى ذلك الوقت، اكتشفت أنني أسير مُجدداً في المسار نفسه، الذي انتهجه الدارسون الأكاديميون، وقد لا أنتهي بإضافة جديد، وخطر في ذهني أن علامات الرواية المكرّسة قليلة حتّى ذلك الحين (أوائل الثمانينيات)، وهي تختلف في مستوى نضجها الفني وتماسكها عن تلك الإشارات الواعدة، وتتجاوز في الوقت نفسه كثيراً المحاولات الروائية العابرة أو العاثرة، التي لم تضف شيئاً سوى التراكم الكمي الذي قد لا يعني سوى الدراسات الأكاديمية ولا يعنيني، فكتبت ما كتبت كوجهة نظر نقديّة تم تبنيها على نطاق واسع، وإن كان هذا التبني لم يعترف، في كثير من الأحوال، بإحالة الفكرة إلى أصولها الأولى.

* في السياق ذاته، قلت: "إنها ثلاث علامات وقد حرصنا على حذف (الـ التعريف) لأننا نؤمن بأن الزمن ما يزال مفتوحاً أمام الإشارات الجديدة لصنع علامات جديدة، فليس المستقبل حكراً على أحد". بعد مرور 35 عاماً، هل ثمة "علامات" جديدة دخلت إلى مختبرك النقدي، بُعيد هؤلاء الكبار؟

عندما راهنت على الزمن لخلق علامات روائية فلسطينيّة أخرى جديدة، لم أكن أضرب بالغيب، وإنما كنت في حينها أجدد الثقة في المستقبل والأجيال القادمة. ولم يخيِّب الزمن توقعاتي، فهو لم يبخل علينا بكم زاخر من الروائيين الفلسطينيين الذين قدموا وما زالوا يقدمون سرديات روائية لافتة.

أمّا مسألة دخول علامات روائية جديدة إلى "مختبري النقدي" - وهو تعبير يثير مخاوفي -، فالحقيقة أنني ما أن أصدرت "ثلاث علامات" في بيروت 1981، حتّى واصلت على الفور عملي في مشروع قراءة الرواية الفلسطينيّة لما بعد كنفاني وحبيبي وجبرا، ونشرت قراءات قليلة حول أصوات ما بعد الروائيين الثلاثة. غير أن سقوط بيروت بعد عدوان 1982 وضياع بيتي ومكتبتي فيها، ومنها المكتبة الخاصّة بالرواية الفلسطينيّة، قضى على "أحلام مختبري النقدي" الروائي الفلسطيني، وخاصّة أنني فقدت ضمن ذلك ملاحظاتي التفصيليّة حول الأعمال التي كنت قد قرأتها آنذاك.

وأعيد التأكيد على أن آرائي التي حملها "ثلاث علامات" لم تتشكل إلا بعد قراءة تفصيلية وتشريحية للنتاج الروائي الفلسطيني حتّى ذلك الوقت. وقد سبق أن قلت إن على كل من يريد أن يؤكد أو ينفي، أو يضيف علامات أخرى جديدة، أن يستغرق في دراسة النتاج الروائي الفلسطيني منذ وقت مبكر وحتى الآن، ثم يضع أمامنا نتاج جهده وأبحاثه ودراساته. وأعيد التأكيد على أنني لم أغلق الزمن أمام المستقبل، الأمر الذي دفعني إلى نفي "الـ التعريف" عن كلمة "علامات" والتشبُّث بنفيها. بالنسبة لي قد لا أكون الآن مهيّأ للقيام بمثل تلك الدراسة.

* من الأقرب إلى ذائقتك من الجيل الروائي الفلسطيني الجديد؟

بعد عامين من صدور ثلاث علامات، سألني الأستاذ الصديق الراحل خليل السواحري، في مقابلة صحافيّة، عن أسماء ثلاثة أخرى أقترحها بعد "ثلاث علامات"، فاقترحت في حينها أسماء مُرشّحة لم أعد أتمسّك بها في ما بعد. قد أتردد كثيراً بأن أزج بنفسي في اقتراح أسماء أخرى الآن، لأن مثل هذا الاقتراح سيكون مستنداً إلى متابعة قارئ وليس إلى استنتاجات باحث. ولذلك فإنني أعيد إحالة المسألة لاجتهادات الباحثين.

أما إذا سألتني عن الأقرب إلى "ذائقتي"، وطالما أن ذائقتي هي مسألة تخصّني وحدي ولا تنطوي على أحكام موضوعيّة صارمة، فإن الأقرب بالنسبة لي، الآن، بلا تردد: إبراهيم نصر الله، وخاصّة في "قناديل ملك الجليل" و"زمن الخيول البيضاء" وحزامة حبايب في "مخمل" و"عندما تنام الملكة".

* نظل في السياق أيضاً، أنت من الندرة التي قرأت بعض مخطوطات إميل حبيبي، وقد أخبرتني عن مخطوطة له اطلعت عليها وضاعت في ما بعد عند آخرين. نريد إضاءة وتفاصيل؟

مخطوطات إميل حبيبي التي أتيحت لي قراءتها، كوني كنتُ مسؤولاً لقسم الدراسات والنشر في دائرة الثقافة الفلسطينيّة، خلال السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ليست من أعماله السّرديّة.
الكتاب الأوّل كان بعنوان "مذكرات باقٍ في حيفا"، وهو يقع في خمسة أجزاء ضخمة تضم المئات من مقالاته المختارة التي كان يكتبها أبو سلام في جريدة "الاتحاد" الحيفاوية، منذ الأربعينيات وحتى أوائل الثمانينيات، ويوقعها باسم "جهينة"، وشكلت سجلاً تاريخياً لنضال شعبنا المتبقي على أرضه بعد 1948. والكتاب الثاني جمع فيه حبيبي مقالاته الثقافية تحت عنوان "انفخوا في الصور". وقد تجاوزت الكتب مرحلة التنضيد والتدقيق ولم يتبق أمامها سوى القليل من العمليات الفنية الروتينية للطباعة، عندما اندلعت الحرب الإسرائيلية العدوانية على لبنان 1982.

كنت خارج لبنان عندما وقع العدوان. وعندما تعذرت عودتي إلى بيروت، ذهبت سناء، زوجتي، بجواز سفرها المصري. تعدت الحواجز الإسرائيليّة والكتائبية في منطقة المتحف وتمكنت من استلام الكتب من الفنان الراحل إسماعيل شموط، الذي كان يشرف على العمليات الفنيّة فيها، وعملت على تسليمها، بناءً على تعليمات الدائرة، لأحد الأحزاب الشيوعيّة العربيّة. وحين جاء الوقت الذي راجعناهم بشأنها، تنصّلوا من المسؤولية وأنكروا استلامها، وضاعت المخطوطات في فوضى الرحيل والتحولات التي لم يعد فيها الشيوعي شيوعياً.

مسوّدات الكتاب، وهي مصورة عن "الاتحاد"، عادت مع إميل حبيبي إلى حيفا. لكننا كنا قد بذلنا معاً جهداً كبيراً، وسهرنا الليالي في براغ حتى الصباح، لتحرير الكتب وتهيئتها للنشر، وهو عمل ما كان يمكن له أن يعاد من جديد، وخاصة مع وقوع الانهيار الكبير الذي أشرنا إليه والخلافات والفوضى السياسية والإيدولوجية التي دبت في قوى اليسار العربي والعالمي آنذاك. مخطوطة أخرى لإميل حبيبي قرأتها بالمشاركة مع الصديق المخرج قيس الزبيدي، هي ثماني حلقات تلفزيونية من "المتشائل"، كتبها إميل حبيبي نفسه، غير أنها لم تكن قابلة للتنفيذ.

* عشت عمرك تحت معطف اليسار، ومع هذا لا نجد أثراً ولو طفيفاً من ظلّ إيديولوجي في سائر أعمالك التي تجاوزت العشرة. أهي الموهبة بحكمة فطرتها، أم الوعي؟

لا يخلو الأدب من الإيديولوجيا، ذلك ليس عيباً في اعتقادي، بل إن العيب كله يكمن في بروز الإيديولوجيا ونفورها بشكل طاغٍ ومهيمن. الإيدولوجيا لا تقول ذاتها بوضوح. فكلما كانت هامسة أكثر، كان صوتها مسموعاً بشكلٍ أفضل، ومُقنعاً أكثر.
والإيديولوجيا، إذا شئت، "تشي" بما تريد، فإن قالته بوضوح افتقد النص فنيته وأسقط عن نفسه صفة الفن، فخسر الفن والإيدولوجيا معاً.

عندما أكتب، على سبيل المثال، في "عصفور الشّمس"، عن امرأة عانت من الظلم الاجتماعي والإنساني، فإنني أعلن انحيازي إلى الإنسان وإلى الفكر الإنساني الذي يقف في مواجهة كل أشكال الظلم. وعندما يكون المحدِد الزمني لذلك الظلم واقعاً في إطار تاريخي يستفحل فيه الظلم السياسي والاغتصاب التاريخي، أكون منحازاً إلى المظلوم وإلى الفكر الرافض للقهر وسلب الأوطان، بل ومتكئاً على هذا الفكر في محاولة الفهم والتحليل، ومن قناعة أن هذا الفكر يتحوّل إلى قوة مادية تعمل على التغيير.

قبل سنوات، كنت أقرأ نصاً روائياً لكاتب "يساري"، يشكّل بالنسبة لي أنموذجاً لسطوع الإيديولوجيا ووجودها النافر، وباختصار: لمرض الطفولة اليساري في الأدب. لنستمع إلى بطل الرواية يصف حبيبته: قلت لها "إنني أحب فيك أمميتك، تلك النجمة المشعة في سماء البروليتاريا، والتي تصطخب بموسيقى الآلات العذبة: ذاك الوهج الذي يضيء دروب الخير والعدالة، دروب الخير والعدالة والمساواة، تلك الدروب الاشتراكية العظيمة". يومها كتبتُ ساخراً: يا له من عشق رائع يستنير بمبادئ الماركسية اللينينية!

* في معظم أعمالك، حتى مقالاتك الصحافية منها، نجد هذه الخصيصة: تهجين أو تضفير السرد بطاقة شعرية مركّزة. ألهذا تقصُر رواياتك حجماً وتحرق زاويتك الصحافية أسبوعاً من العمل عليها؟

قد لا نبالغ إذا قلنا إن الشعر هو أصل الفنون، ليس باعتباره ديوان العرب، تلك الجملة التي ابتُذلت إلى حد كبير، وإنما كونه الديوان الكوني الأول من دون منازع. وإذا كنت أحب الشعر وأثق به كشكل تعبيري راقٍ، فإنني أحب الشعر الذي يفيض من كل ما ليس شعراً. بمعنى الشعر الكامن في روح الأشياء من حولنا، وليس شرطاً في القصيدة وحدها.

تخيل مثلاً أنك تشاهد فيلماً سينمائياً لا تتحرك فيه الكاميرا بروح الشعر. أو تتأمل لوحة تسكن الجدار من دون أن ينطقها الشعر، أو تقرأ رواية تسرد أحداثاً من دون أن تغوص في المشاعر الإنسانية التي يعبّر عنها الشعر. أو تخيل أي شكل آخر من أشكال الفن الأخرى من دون شعر!
لقد رأى جان كوكتو الشعر في كل ما لا يبدو من الشعر في شيء. فعمّ في مفهومه أشياء كثيرة تتجاوز الشعر، وطاول الفنون على اختلاف أشكالها. بل أكثر من ذلك. فبراك بالنسبة إليه شاعر في صورة، وسترافنسكي شاعر في موسيقاه، حتّى أنه يصل إلى عد أينشتاين، صاحب النظرية النسبية: أحد شعراء الفيزياء الحديثة! من هذا المفهوم، أعتقد أن الاتكاء على الشعر في السرد أو في فن المقالة أو في الفن التشكيلي، هو نوع من ممارسة الشعر في مكانه الذي هو كل مكان، وليس إقحاماً له في أمكنة لا تعنيه. المهم أن يندرج الشعر في كل ما ليس شعراً، بسلاسة وتلقائية، وكجزء لا يتجزأ من ضرورة النص أو العمل الإبداعي، وحتى في الحياة أو الحياة المفترضة.

* ثمة جانب فيك قد لا يعرفه كثيرون: غرامك بالفن التشكيلي، رسماً وثقافة ومتابعات. وحين زرت برشلونة، من بين مدن كثيرة زرتها، حرصت على زيارة متحفَي بيكاسو وخوان ميرو وتحفة ساغرادا فاميليا للمعماري غاودي. أتعتبر هذا الجانب هواية، فيما الكتابة احترافاً؟

علاقتي بالفن التشكيلي قديمة استبقت علاقتي بالكتابة. وليس من الغريب أن أول مقالة نشرتها في صحافة القدس عام 1965، كانت تشكل دفاعاً عن الحداثة في الفن التشكيلي، رغم أنني لم أكن، حتى ذلك الوقت، قد قاربت الحداثة في ما أرسم، بل وكنت على العكس متمسكاً بكلاسيكيتي المفرطة. لكنني، من دون أن أدري، انزلقت إلى الكتابة. شجعني في ذلك أساتذتي خليل السواحري ومحمود شقير. ورغم أنني كنتُ أناوش الرسم بين فينة وأخرى، إلا أن الكتابة كانت تعود لتهيمن عليّ من جديد. وكنت أخضع، من دون مقاومة للأقوى في داخلي، القادر على أن يسلبني مني. والغريب أن العبث بالألوان كان يداهمني على أثر التحولات التاريخية التي تمس الأمة بعنف. حدث الأمر بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 1970 في الأردن، وراودني بعد الرحيل من بيروت 1982. لكنه ألحّ عليّ بقوة بعد الحرب على العراق عام 1991، فأنجزت مشروعاً متكاملاً جاء عرضه في معرض ثلاثي مشترك بعنوان "كتّاب يرسمون"، أقيم بالمشاركة مع الصديقين الكاتبين إبراهيم نصر الله وجمال ناجي ربيع 1994.

توقف إبراهيم وجمال عن الرسم بعد ذلك، أمّا أنا فقد بقيت أرسم لسنوات طويلة، وشاركت في عدد كبير من المعارض الجماعيّة، ولم أجرؤ على إقامة معرض فردي. بعد ذلك التحقت بجمال وإبراهيم وتوقفت عن الرسم. لكنني لم أكف عن تحسس ألواني للتأكد من طراوتها واستعدادها للاستجابة لغواية أصابعي إذا ما اعتصرتها ذات يوم، أرجو أن لا يبتعد.

* جانب ثان، أراه مهماً جداً في تجربتك: أدب الرحلة. أنت مجيد في كتابة هذا النوع، لكنك إلى الآن، لم تنشر رحلاتك بين دفّتي كتاب، مع أنك نشرت شتاتاً منها في الصحف. لماذا؟

في إحدى قصائده، يقول ناظم حكمت: "ليست المدن يا حبيبتي كبيرة بطرقاتها.. بل بشعرائها الذين أقيمت تماثيلهم فيها".
من هنا أعود للإجابة على سؤال، زياراتنا لمتاحف الفنانين التشكيليين - زوجتي سناء، التي لها الاهتمامات نفسها، وأنا - فمثل تلك الزيارات لا تنفصل، في المدينة التي نقصدها، عن رغبة التّعرف على روح المدينة.

هكذا، كان علينا في الأيام القليلة التي قضيناها في برشلونة، أن نغتنم الفرصة لمزيد من التعرُّف إلى بيكاسو، بعد أن شاهدنا متحفه في مسقط رأسه في مدينة ملقة (Malaga) قبل أربع سنوات. والحقيقة أنني لم أتمكن من مشاهدة متحفه في باريس، لأنني زرتها قبل إقامة المتحف فيها. وقد سعدنا بمشاهدة متحف خوان ميرو في مدينته وبين أطفال برشلونة الذين ملأوا المتحف بحيويّة ميرو الطفوليّة. أمّا غاودي، فقد شعرنا، بعد مغادرة برشلونة، أنه كان بحاجة إلى وقت أطول للتعرف إلى عبقريته المعمارية الهائلة، المتناثرة في شوارع وساحات وحدائق المدينة. وحول كتابة الرحلة، هناك تعبير لفرجينيا وولف تقول فيه: "الحدث لم يحدث إذا لم يدوّن". وأرى أن الأمر نفسه ينطبق على المكان. فالمكان لم يُزَر إذا لم تُدوّن زيارته.

لقد أتاح لي عملي أن أزور العديد من الأمكنة في العالم، وقد نبهني بعض الذين قرأوا كتابي "سيرة الظلّ"، الذي لا يتحدّث عن الأمكنة، وإنما عن بشر التقيتهم في دروب الحياة، معظمهم من الكتّاب والمثقفين والفنانين والمبدعين، أن الكتاب يشير إلى أمكنة زرتها وجاء ذكرها بشكل عابر. ذلك أن كتابة المكان لم تكن مقصدي وهاجسي آنذاك.

بعد ذلك، وفي سياق كتابتي الصحافية، حرصت على تدوين بعض رحلاتي في حلقات، وخاصّة لتلك البلدان التي تكررت زيارتها وتعمّقت المعرفة فيها، وأهمها البرتغال وإيطاليا وإسبانيا. وكان عليّ أن أكتب فصلاً أتعرّض فيه إلى السفر الذي لم يدوّن في حينه، فأستعيد اللحظات الهاربة على الورق. غير أنني شعرت أن ما لم يُكتب في وقته، قد ضاع وقته. ومع ذلك، فقد يبقى المشروع قائماً، منتظراً حلول الزمن الملائم لنشره.

* لم انقطعت عن زاويتك الصحافية المتقنة، وقد استمررت مواظباً عليها دون انقطاع نحو عشرين عاماً. أهو تقدم العمر أم اليأس من جدوى الحضور في الصحافة العربية؟

انقطاعي عن زاويتي الأسبوعيّة لم يكن يأساً أو دلالاً، ولا انحيازاً للطموح في إنجاز كتابة من نوع آخر قد يكون أكثر جدوى. لقد ودّعت قرائي منذ عامين، بمقال حمل عنوان "المقال الأخير.. أقول وداعاً"، شرحت فيه الأسباب التي دفعتني إلى التوقف، وهي الاعتلال الذي أصاب شبكيّة العين لديّ، الأمر الذي حال دوني والقراءة الطبيعية، وبالتالي الكتابة. ولا أخفيك بأن المقالة كانت تتطلّب مني جهداً كبيراً في الإعداد والقراءة الموسّعة لم أعد قادراً على بذله، خاصّة بعد أن لم تعد قراءة الكتب والمجلات والصحف، والورق بشكل عام، ممكنة. حقيقة أنني ما زلت أتابع القراءة إلى حدّ ما على الكمبيوتر و"التابلت" الذي يسمح لي بتكبير الحرف، إلاّ أنني ما زلت أشعر أن قراءة الورق.. هي القراءة!

* كتابك "سيرة الظلّ: عن آخر هو أنت"، مر من دون التفات، مع أنه يرسم ما يشبه البورتريه لكثير من الشخصيات الثقافية والسياسية الفاعلة في الساحة الفلسطينية، ويضيء زوايا منها يجهلها القارئ.

لا أدري لماذا تمرّ بعض الكتب من دون التفات. ربما لأن الشكل الذي اتخذه "سيرة الظلّ" لم يكن محدد المعالم تماماً وظلّ عصياً على التجنيس، وبالتالي على المعايير النقدية.
مرّة، وقبل أن يصدر لي أيّ كتاب، نشرتُ في مجلّة "الآداب" اللبنانيّة قصّة قصيرة بعنوان "محاكمة في الزمن الآتي للرجل الذي قاتل وقتل"، وكانت تنطوي على شكل من أشكال التجريب لم يرق للناقد الذي تناول قصص ذلك العدد من المجلة. لكن الحكاية لم تنته هنا، فقد حدث أن التقيت بشاب كان يعمل في إحدى مؤسسات منظمة التحرير في بيروت، صافحني بحرارة وكأنه يعرفني منذ زمن. وبالفعل فقد كان يعرفني من خلال تلك القصة وحدها. قال إنه كان معتقلاً في سجن الجفر الصحراوي، وذات ليلة، قرر السجناء، ضمن أنشطتهم الثقافية، إخضاع تلك القصة للنقاش، لما انطوت عليه من أبعاد رمزية تثير الأسئلة. القصة، كما قال، غدت من أحب النصوص إلى قلبه، وهو سعيد لأن المصادفة قادته للتعرف على كاتبها.
شيء قريب من ذلك حدث مع "سيرة الظل" نفسه. أرسل لي قارئ من منطقة نائية في المملكة العربيّة السعودية، يقول إنه عثر على عنوان بريدي الالكتروني مصادفة، وأنه وجد الفرصة ليشكرني على المتعة التي وفرتها له قراءة كتاب "سيرة الظّل". أقول، أحياناً، برضى وقناعة: "قارئ واحد يكفي".

* تقول: "أنا بطيء في القراءة، وأبطأ في الكتابة. وبعد هذا العمر، تكفيني الإطلالة على القراء، من خلال كتبي فقط". هذه المسؤولية أمام قارئك، واحترامك الكبير له، أهما ما دفعاك للتواري عن الأنظار، تاركاً الساحة لسواك وقد غصّت بالصخب والمهارشة على الزبد؟

بطئي في القراءة ناجم عن أنني "أسرح" كثيراً في عمليّة القراءة، وأخضع المادة للتأمل والمحاكمة شبه النقدية. أما عن رغبتي بأن أتواصل مع قارئي من خلال الكتب، فربما قلت ذلك عندما اتخذت قرار التوقف عن الكتابة الصحافية للأسباب التي ذكرتها، وكنت أمنّي النفس أن أجد من الوقت وملاءمة الحالة الصحيّة لتكريس جهدي لكتبي ومشاريعي الأخرى، لكن الرياح لم تأت بما أشتهي. على أي حال، فإن كتابة مقالة أسبوعيّة ليست عندنا مشروعاً ثقافياً يُركن إليه، فمهما بُذل في المقالة من جهد ووقت واستنزاف ذهني، فإنها تبقى منذورة للنسيان.

لقد حدث، بعد أن توقفت عن كتابة مقالتي الأسبوعية، أن قررت الجريدة التي كنت أكتب فيها، تغيير التصميم الفني لموقعها على الشبكة العنكبوتيّة، ما استدعى تدمير أرشيفها كاملاً، ومنها أرشيف كتابتي، ما عرّض تلك الكتابة لأن تُنسى وكأنها لم تكن.

أمّا التواري عن الأنظار، فله مبرراته كما ذكرنا، وليس المقصد التراجع من أجل ترك الساحة للثقافة الرديئة. فإذا كنت أقرّ معك بوجود مثل تلك الأجواء الثقافيّة المريضة، فإن ذلك لا ينفي وجود نتاجات وأقلام جادة تبعث على التفاؤل. وأنا أثق دائماً بأن المستقبل لا يخيب الظن فيه.

* رأيك في المشهد الروائي العربي، اليوم؟

لستُ مؤهلاً الآن لتقديم قراءة للمشهد الروائي العربي الراهن، فأنا أقرأ على "التابلت" كما ذكرت. فهذا الجهاز الذي وفر لي التواصل وعدم الانقطاع عن قراءة الرواية، حرمني من ملامسة الورق والالتصاق أكثر بالمادة المكتوبة، وقد عجزت حتى الآن عن إنجاز كتابة نقدية عن أي عمل قرأته عن غير الورق ورغبت بالكتابة عنه.

على أي حال، ربما تكفي نظرة إلى حجم النتاج الروائي العربي في السنوات الأخيرة، للتأكد من أن الرواية أصبحت تشكل هاجساً كتابياً لدى قطاع كبير من الكتّاب العرب. وربما ساهمت جائزة البوكر في نسختها العربية، بتشجيع مثل هذا الأمر، وتكفي قراءة أرقام المشاركات السنوية في المسابقة للتأكد من ذلك.

غير أن البوكر بما حققته من إيجابيات، خلقت سلبياتها. فقد بات طموح الحصول على الجائزة يتقدم على طموح الكتابة نفسها، وباتت شروط الجائزة تُحدد شروط الكتابة. وأخشى أن تصبح ذائقة لجان التحكيم هي التي ترسم أفق الرواية العربيّة. ولعل هذا الاهتمام بالرواية انعكس سلباً على الأجناس الكتابية الأخرى، بحيث انعدم الاهتمام بالقصة القصيرة، ناهيك عن الشعر والكتابة المسرحيّة وأشكال الإبداع الأخرى.

المساهمون