فاروق الاسم والمُسمّى

فاروق الاسم والمُسمّى

09 اغسطس 2016
لوحة للفنان جيل مايير (Getty)
+ الخط -
قد لا أكشف جديدًا إذا ما قلت إن معنى الاسم فاروق هو الذي يفرّق بين الأمور، والفيصل، وإن الخليفة عمر بن الخطاب لُقّـب بالفاروق لكونه يَفْرُق الحقَّ من الباطِل، وإن من حقّ الروائي والناقد الفلسطينيّ فاروق وادي أن يُذكر أنه بهذا الصدد اسم على مسمّى، لكن يبقى من واجبي إزاء القارئ - في مناسبة حلوله ضيفًا على "ملحق الثقافة" - أن "أهيئ" له أسبابًا كافية تبرّر ذلك. 
ولا يتسّع المقام لأكثر من سببين اثنين.

السبب الأول، نأيـه عن التبجّـح. فمثلًا يؤكد وادي مرة أخرى هنا أنه لا يجرؤ على وصف كتابه "منازل القلب" (1997) بأنه رواية، لأن شرطًا أساسيًا من شروط الرواية ينقصه ليكون كذلك، وهو "التخييل"، الذي غاب عنه تمامًا، فالتزم السّرد فيه بالأحداث والوقائع كما حدثت في الواقع من دون تحريف، وبالأشخاص كما كانوا، أو كما هم، وبالمدينة (رام الله) في حدودها الجغرافيّة والتاريخية الواقعيّة.

وبغية مجادلته بالتي هي أحسن، أسمح لنفسي أن أشرك القراء بقراءة المقطع التالي من "منازل القلب":
"مطر لا يشبهه مطر آخر! لرام الله مطرها، بروقها ورعودها. وها أنت الآن تتسلّق خيوط المطر المندفعة إلى الأرض. تصنع منها طريق معراجك إلى السماء. وهناك، ترى رعد رام الله جميلًا كما ترويه عجائزها الراحلات والمقيمات. فما الرعد في سماء المدينة إلا صدًى مقدّسًا لوقع حوافر فرسين مجنحين لهما لون الحليب ورائحة البخور، يمتطيهما "إبراهيم الخليل" و"مار جرجس" ويطاردان على صهوتيهما في فلوات السماء.. سماء رام الله وحدها، ودون غيرها من سموات الله التي خلقها سبعًا طباقًا.

لا تسألوا أهل المدينة كيف نسجوا حكاية رعدهم. اسألوا الخالق الذي اختار هذه السماء، دون سواها، لمثل هذا المطر، وهيأها مدى مفتوحًا للريح وسنابك جياد تسبق الريح.. وتحمل على ظهورها أجسادًا أثيرية منذورة للقداسة والنبوءات...
أرض خلقت لمثل هذه السماء..
سماء خلقت لتعدو فيها جياد الأنبياء..
تكاد تتماثل للشفاء من الحنين، تتخفّف من نزف الأشواق، لكنه المطر.. يعيدك إلى كل ما كان فيك، وينفث في الروح شوقًا أزليًا للمكان، لا يستكين.. ولا يسكن باللقاء، وحنيناً لا شفاء منه لرام الله، مكانًا وزمانًا!".

أفلا يثبت هذا النص - على سبيل النمذجـة - انطواء سرد الكاتب على طاقة إقناع كفن، لا بما يُضفى عليه من تصورات ذهنية مُسبقة لا تجد طريقها إلى التعبير الأصيل، وهي الطاقة عينها التي كان ت. س. إليوت يأخذها بالاعتبار في تصورّه لطبيعة العمل الفنيّ في ذاته؟

السبب الثاني، كتاب وادي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" (1981)، والذي يجب أن يُقال - فضلًا عما يرد في الحوار - إنه لم يصبح مرجعاً في ما يخصّ ثلاثة روائيين فلسطينيين مؤسسين فحسب، بل أيضًا علامة نقدية فارقة في ما يتعلق بمقاربة الأدب الفلسطيني ضمن معايير الإبداع الفنيّ.

خاض وادي في هذا الكتاب، من ضمن أمور أخرى، غمار الإجابة عن السؤال بشأن البداية الحقيقية للرواية الفلسطينية. وقد وجد أنه حتى عام 1963 لم تتجاوز الروايات الفلسطينية التي كتبت ولا سيما بعد عام 1948، كونها مجرّد "محاولات" متعثرة تحركت بطموح التعبير عن قضية فلسطين، لكن خانتها قدرتها على تملّك أدوات الكتابة الروائية، أو على تملك الواقع نفسه.

وبرأيه، فإن تملك الواقع وتملك الأداة الفنية المتميزة وتضافرهما الجدليّ لصوغ عمل فنيّ متقدم، تحقّق أول مرة على صعيد الرواية الفلسطينية في العمل الروائي الأول لغسان كنفاني "رجال في الشمس". هذا العمل قدّم رؤية فنية وأيديولوجية وسياسية تتجاوز الرؤيا السياسية والأيديولوجية المعلنة خارج النصّ للكاتب نفسه. واستطاعت هذه الرواية أن تستوعب شروط تاريخها وأن تحاول رصد حركة جوهره وأن تجيب عن أسئلته الجوهرية.

وخلص وادي إلى أن تحقق جدلية السياسي والأيديولوجي المتقدّم في صياغة فنية متقدمة، جعل من عمل كنفاني هذا البداية الحقيقية للرواية الفلسطينية، وجذرًا أول من جذورها تنامت على امتداداته محاولات فلسطينية أخرى لاحقة في هذا الحقل، وكانت إيذانًا بانتقال الكتابة من زمن الخطابة إلى زمن الكتابة.

ما زلت أذكر أن هذا الكتاب كان في حينه بمثابة تجديد لمناهج مقاربة الكتابة الروائية الفلسطينية، يسعف في الغوص على قيمها الفكرية والجمالية، ويتيح إمكان امتلاك الوعي للتفريق بين الخطابة... والكتابة.

دلالات

المساهمون