"إنني آخرون"...

"إنني آخرون"...

02 اغسطس 2016
لوحة للفنان مريلي وايتهاوس هولم (Getty)
+ الخط -
يعرب الشاعر المغربي حسن نجمي في مجرى الحوار معه، عن اعتقاده أن الشعراء لا يخترعون القصائد، وإِنما هي في كل مكان وعليهم الكشف عنها وحسب.
هذا لا يعني أن الشاعر يفتقر إلى مشروع ذي بصمة مخصوصة، أو يفتقر إلى أركان لا محيد عنها في البناء والتركيب. والحقيقة أن نجمي صاغ مشروعه الشعري منذ فترة مبكرة. ويمكن لمن تابعه العثور على لُحمة هذا المشروع وسداه من طريق قراءة كتابه "الشاعر والتجربة" (1999).
فهو يستهله بالتنبيه إلى أنه دائمًا يشعر بالحاجة للعودة إلى رسائل ريلكه التي أرسلها إلى شاعر شاب. وربما - يضيف - كان ذلك نابعًا من روح تلمذة متجدّدة، وربما كان تعبيرًا بالأساس عن انشداد إلى صيغة للكتابة عن التجربة الشعرية الخاصة، ذلك أن ريلكه كان يتحدث عن نفسه وكتابته وطريقته في تشييد القصيدة فيما يتحدث عن غيره أو إلى غيره.

ويشير نجمي كذلك إلى أن الطريقة التي تهمه كثيرًا، هي أن يتحدث عن التجربة الشعرية كما يتمنى أن تكون، وأن يضع يده على ما يعتبره الأفق الضروري لكتابة القصيدة الجيّدة، وبدلًا من أن يتحدث عن ذلك كما يراه، يفضّل أن يتم حديث من هذا النوع من خلال الحديث عن آخرين، وعن تجارب أخرى، وعن رهانات واستراتيجيات شعرية أخرى.

ومثلما حرص على أن يكرّر في الحوار الحالي، سبق للشاعر أن لمّح في الكتاب السالف إلى أن تجربة القراءة تلتقي بتجربة الكتابة (فيما اصطلح النقد على تسميته بالتناص)، ويأتلف الشعريّ بالتشكيليّ، وتلتفت العين إلى صمت الفضاءات والأمكنة. وثمة شعراء، وتشكيليون ومسرحيون وكتاب، وجوه وأسماء وتجارب وأصوات، مدن وأروقة ولوحات ومساحات وألوان... في التجربة التي تتحدّث عن الذات فيما هي تتحدّث عن الآخرين. وخلص إلى القول: حقّا وكما قال كلود سيمون مرة "إنني آخرون"...

ولدى مُضينا قدمًا في سبر غور هذا المشروع من خلال الكتاب ذاته، نقرأ أيضًا ما يلي:
الشاعر نصّ مفتوح أبدًا. يغني للحياة أساسًا. ومن ثم فهو يغني للذات وللآخرين. تتعدّد جبهاته لكنها جبهات انشغال بالألم الإنساني.
الشاعر يقيم حواراً بين الظاهر والباطن، بين المرئيّ واللامرئيّ، بين الكلام والصمت، بين الظلّ والضوء، بين ضفة وأخرى، بين الجماليّ والمعرفيّ، بين الروحيّ والجسديّ، بين الذات والآخر، بين الهنا والهناك.

الشاعر بسيط وينبغي أن يكون وأن يظل بسيطًا. لكنها البساطة التي لا تستسلم للذوق العام. يكتب قصيدة بسيطة مثل قوقعة، لكنها خادعة. 
إن أفق الشعر هو الأفق الإنساني. ولذلك ينبغي أن يظل الشاعر يقظًا لما يجري حوله، ولما لا يجري أيضًا.

حاجة العالم إلى الشعراء هي حاجته إلى سفر مفتوح في الفضاء الشاسع وفي الزمن الممتد، في التفاصيل الصغيرة التي لا "تنتبه إليها عادة" الاقتناعات والعقائد الكبرى، في الغربة والمنفى، في العزلة والوحدة، في المتخيّل والذاكرة، في الزائل والهشّ. إنها حاجة إلى سفر مغامرة، سفر حرية بامتياز.

لعلّ الأمر الأكيد أن تجربة نجمي الإبداعية خضعت لتحولات. وهو ما يشير الضيف إليه بقوله: ربما بفضل تحولات المشهد الشعري بل بفضل التحولات السوسيو- ثقافية العميقة في الساحة العربية، حصل تطور نوعي في الكتابة والإبداع، وفك الشعر ارتباطه مع الروح التبشيرية والتمجيدية التي سادت منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وأصبح "الالتزام" بالمعنى السارتري ذكرى قديمة، لكن انخراط الشاعر في القضايا والأحداث العادلة لم ينقطع ولا ينبغي أن ينقطع، لأن القصيدة بنت التاريخ، ولا يمكنها أن تنعزل عن مجريات الواقع.
وفضلًا عن "الآخرين" الذين خصّهم نجمي بالذكر والاستحصال، شعرت على طريقته بالحاجة للعودة إلى "آخر" إضافيّ هو الشاعر الأميركي ألن غينسبرغ.

سُئل غينسبرغ مرة من طرف الشاعرة الفلسطينية الأميركية ناتالي حنظل كيف يظنّ أنه استطاع إنجاز ما يشبه الانفجار في الشعر، فأجابها قائلًا: "عن طريق اقتفاء ما يتردّد في الذهن، وعن طريق البقاء في موقع السكرتير عند الذهن. لا أعرف كيف يُكتب الشعر في الحقيقة. وأظن أنني توقفت عن كتابة الشعر منذ عام 1954 (ولد غينسبرغ عام 1926 وتوفي عام 1997 وحوار حنظل معه أجري قبل وفاته بأقل من شهر)، وبدأت بعد هذا العام أكتب ما يعبر في ذهني وأجده حيًّا، أو أي شيء أستطيع ملاحظته. والحق أن الحيوية تدور حول الانتقاء الذاتيّ، وهكذا كنت أعيد تدوين ذهني، أو أقوم بكتابة ذهني. وهذه الأفكار استقيتها من معلمي التيبتي شوغيام ترونغيا رينبوشي الذي وصف الكتابة بأنها كتابة الذهـن". 



المساهمون