الحكواتية تروي: "غولدا نامت هنا"

الحكواتية تروي: "غولدا نامت هنا"

26 أكتوبر 2015
حديقة مأوى سنت ريمي، فنسنت فان غوغ (Getty)
+ الخط -
تُعرَّف الفلسطينية سعاد العامري بأنها مهندسةٌ معمارية، وأستاذة جامعية، وناشطةٌ في حفظ التراث المعماري الفلسطيني، غير أنها أيضاً "حكواتية"، على ما صار ذائعاً عنها، لدى القارئ العربي الذي طالع كتابها "شارون وحماتي" (دار الآداب، 2007)، ما يتأكد في جديدها "غولدا نامت هنا" (دار بلومبزبري ـ مؤسسة قطر للنشر، 2015)، كما أنه انطباع يقع عليه القارئ الأجنبي للكتابين اللذين أنجزتهما المؤلفة بالإنجليزية أصلاً. ولكن، ليس الأمر انطباعاً، ولا وصفاً قد يراه القارئ في سعاد العامري، بل هي نفسها أوضحته، في ندوة في الدوحة قبل شهور، لمّا قالت إنها ولدت حكواتية (لا مدعاة للظفريْن إذن)، لكنها قضت خمسين عاماً من حياتها حتى أدركت أن الكتابة فعل يستلزم قصةً تُحكى. وأوضحت في "غولدا ..."، أيضاً، أنها لمّا كانت تنجز، مع صديقةٍ لها، كتاباً عن عمارة البيوت العربية في القدس الغربية، أدركت أن الحكواتي في داخلها كان أكثر بروزاً، وأقوى حضوراً من المهندسة المعمارية، "فالبناية تظل هيكلاً إنشائياً ليس أكثر، ما لم تخبرنا قصةً ما عن شخصٍ ما".

هذه مسألة مركزية في "غولدا نامت هنا" (نقله إلى العربية أيمن حداد). تجد نفسك، وأنت تطالعه، أمام حكاياتٍ بلا عدد، تتالى كيفما اتفق، في يومياتٍ ومشاهداتٍ ومروياتٍ توثّقها سعاد العامري، في جولاتٍ لها مع أصدقاء وصديقات لها في القدس وغيرها، عن بيوت عربية يسكنها محتلون إسرائيليون، وتملكّوها بقانون الغلبة والاحتلال، فصادروا قصص أصحابها ومالكيها وساكنيها الفلسطينيين، في عملية محو وعدوان على ذكريات الفلسطينيين، ليس بحسبانهم جموعاً وشعباً، فقط، بل باعتبارهم أفراداً، لكل منهم أشياؤه وممتلكاته الشخصية. ثمّة احتفاءٌ غزير في سرد سعاد العامري في كتابها بالفلسطيني شخصاً مفرداً، لا بإحالته إلى شعبٍ نُكب بالاحتلال والتهجير والطرد. تُطالع في الكتاب فيضاً من وقائع الفقد والخسران والألم، ولا يتم التعبير عن هذا كله بكيفيةٍ واحدة، ذلك أن الرواة مختلفون، والحكواتية الساردة التي تسمع وتشاهد أمينةٌ في نقل ما تسمع وتشاهد، وباسترسالٍ حر كأنه في هواء طلق، ومن دون استعانةٍ بأي مجازٍ أو بلاغة، إذ يكفي الإحساس الكابوسي، أحياناً، والهزلي الضاحك أحياناً أخرى.

اقرأ أيضًا : لك يا منازل

تكفي الرواية نفسها عن الواقعة التي يُحكى عنها. ومن مظاهر نباهةٍ غير قليلةٍ في كتاب سعاد العامري عنوانه الجذاب، الذي لا تعدو "حكايته" مقطعاً من بضعة سطور، فلا تهيمن في الكتاب الذي يعتني بحكاياتٍ أخرى، تتدافع ليقع قارئها على الإيحاء الظاهر، والخفيّ أيضاً، فيها. تتجوّل الكاتبة مع صديقتين لها، في حي الطالبية في القدس، فيريْن فيلا أمامهما، اسمها فيلا هارون الرشيد، فتقول إحداهن (هدى) إن غولدا نامت هنا، وتقصد غولدا مائير. سكنت في الخمسينات في الفيلا التي تعود، أصلاً، إلى عائلة بشارات، ولمّا زارها، في هذا المنزل المحتل، الأمين العام للأمم المتحدة، داغ هامرشولد، مسحت المذكورة بالرمل كتابةً عربيةً فيه، تشير إلى ملكية العائلة الفلسطينية له، لكي لا يرى ذلك، ولتخفي حقيقة إقامتها في مسكنٍ عربي. لا مدعاة، هنا، إلى التفاصيل، فإلغاء الفلسطيني، ليس فقط بتهجيره من وطنه، ومن منزله، بل أيضاً بمحو أثره، وصلته بالمكان، في اعتداءٍ مكشوف الغرض.



تدخل سعاد وصديقتاها منزلاً، تسمع من الإسرائيلي الذي يحتله، ويسكن فيه، إنَّ عرباً زاروا المنزل، وأرادوا رؤيته، فأذن لهم بذلك، وبأن يلتقطوا صوراً لهم فيه، وهم الذين كانوا يسكنونه قبل (حرب الاستقلال)، على ما يسمّي نكبة احتلال فلسطين. وثمّة منازل عديدة غيره في الكتاب الشائق الذي يقوم على نثرٍ مسترسل، وبعض الشعر، يتداخل فيه حكيٌ عن ماضٍ وعن حاضر، من الذاكرة ومن الراهن. ويتوازى، في هذا كلّه وغيره، المونولوغ الشخصي، والحوار الساخر، واللطائف الحاذقة، والدردشة الذكية، مثلاً مع حماة سعاد العامري (أيضاً)، ليس فقط عن يافا واحتلالها في 1948، بل أيضاً عن بيتٍ هناك، سرق المحتلون منه محتوياته. تكتب المؤلفة الحكواتية إن تلك الواقعة التي حدثت قبل أكثر من خمسين عاماً أثارت غضبها الشديد، كما لو أنها حدثت اليوم. وكتاب "غولدا نامت هنا" يشعل فيك غضباً كثيراً، وإنْ تغشاك متعةٌ غزيرةٌ، وأنت تقرأه.

المساهمون