عمارة المسجد والهوية الوطنية

عمارة المسجد والهوية الوطنية

10 يوليو 2016
(نورث كارولينا: مطبعة جامعة نورث كارولينا، 2015)
+ الخط -
تثير كيشوار رضوي الأستاذ المشارك في تاريخ الفن في جامعة ييل الأميركية، عدة أسئلة حرجة ومهمة حول عمارة المساجد الحديثة في كتابها المعنون: "المسجد الممتد وراء حدود الوطن: العمارة والذاكرة التاريخية في الشرق الأوسط المعاصر". ولكي تجيب عن الأسئلة التي طرحتها طوّفت بالقارئ في ثنايا التاريخ الإسلامي، والذاكرة الشعبية، وأنماط الهندسة المعمارية، والسياسة. ومن خلال جمع هذه العلوم معاً في بوتقة واحدة استطاعت بحنكة أن تركز الأضواء على الأهمية السياسية للمسجد باعتباره رمزا للوطن الذي شيده، سواء أكان هذا المسجد على التراب الوطني، أم كان خارج نطاقه، أي في دولة أخرى بعيدة عنه جغرافياً، ولكنه (أي المسجد) تابع لها إدارياً ووظيفياً.

وقد اقتصرت مؤلفة الكتاب في دراستها الميدانية على مشاريع المساجد الحديثة التي شيدتها بعض دول الشرق الأوسط المعاصر، وخاصة: إيران، وتركيا، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.

ولعل أبرز سؤالين طرحتهما المؤلفة هما: أولهما: هل المسجد الذي تشيده دولة ما خارج ترابها الوطني يعبر عن هويتها الدينية أم عن سياستها الدولية؟ وثانيهما: هل النمط المعماري لهذا المسجد يمثل النمط المعماري السائد في تلك الدولة للمساجد المنشأة فيها؟ وبعبارة أخرى: هل له علاقة بالتاريخ المعماري لتلك الدولة أم لا؟

في إجابتها عن السؤال الأول تلمح المؤلفة إلى أن مثل هذه المساجد تجمع بين الرؤيتين: الدينية والسياسية للدول الراعية لها. فكل مسجد هو منشأة تروّج للمذهب السائد في الدولة الراعية له، وأنه لا فارق بين الوظيفة الدينية أو السياسية في المساجد الموجودة على تراب الوطن وبين المساجد الأخرى الواقعة خارج حدود الدولة المشيدة له. والأهم من ذلك هو أن إنشاء هذه المساجد يمثل بالدرجة الأولى تنافس الحكومات والمجتمعات المحلية على نشر نسخهم الخاصة من الهوية الإسلامية خارج حدودهم من خلال مشاريعهم الخاصة ببناء تلك المساجد. والمؤلفة محقة في ذلك، فالأيديولوجيا تسللت إلى تلك المشاريع، بحيث يمكننا القول بأن تلك المساجد تمثل حاليا موردا مهما لفهم قضايا الثقافة والسياسة السائدتين حاليا في دول الشرق الأوسط، ومعرفة الدور الذي تلعبه مشاريع بناء المساجد في خدمة السياسة المعاصرة.

أما في إجابتها عن السؤال الثاني فترى المؤلفة أنه لا علاقة بين الهوية الوطنية وبين البنية المعمارية للمسجد التابع لها والمنشأ داخل حدودها أو خارجها. فالمعماريون الحاليون لا يعتنون بالإرث المعماري التاريخي لأوطانهم، وهم ينأون عنه عند تصميم المسجد. ففي مرحلة "ما بعد الحداثة" قد يكون المصمم شخصاً غير مسلم أو شركة أجنبية. وهؤلاء المصممون لا يراعون العلاقة بين الشكل المعماري للمسجد والبيئة المحيطة به، فيبدو شكل المسجد غير متجانس مع ما حوله من عمران. وحتى في الحالات التي يستلهم المصممون فيها التراث الوطني المعماري للمساجد فإنهم لا يحسنون اختيار النمط المناسب لروح العصر. كما أنهم في بعض الأحيان يفضلون أنماطاً عفا عليها الزمن. وكان مما شجع المؤلفة على القول بذلك أنها خلال رحلاتها في دول أوروبا والشرق الأوسط لتجميع مادة الكتاب، كانت تشاهد مساجد ضخمة، تبدو تاريخية في تصاميمها، ولكن تم بناؤها في السنوات الثلاثين الماضية. فعلى سبيل المثال، شيد الأتراك مسجداً في ألمانيا على النمط العثماني الذي تجاوزه الزمن، ولا يتلاءم منظره مع طبيعة المكان الذي شيد فيه.

وبالمثل، فإن المساجد التي شيدت في دبي في العقود الأخيرة هي نسخ من عمارة المساجد المملوكية في القاهرة، ولا رابط بينها وبين التراث الخليجي للمساجد، ولا علاقة بينها وبين الهوية الوطنية أو الدينية. وتعلق المؤلفة على ذلك بقولها: "كنت أرغب في فهم أفضل للدوافع وراء هذه الخيارات الأسلوبية التي يجري فيها الإشارة إلى لحظات معينة في التاريخ الإسلامي. لقد كنت مهتمة بالطريقة التي تعامل بها المعماريون مع الماضي كمصدر للإلهام وإضفاء الشرعية. وأردت أن أعرف ما الأجندات السياسية والأيديولوجية للدول الراعية لهذه المساجد". وتقول أيضا: "كثيرا ما يتم حذف الدين عند الحديث عن الفن والعمارة في الشرق الأوسط، مثلما يحدث في أماكن أخرى، على الرغم من أن الدين عامل رئيسي في السياسة المعاصرة، ويعمل على تميز وتوحيد المجتمعات التي تؤمن بنفس العقيدة في جميع أنحاء العالم، ولهذا كان تركيزي على هذا الجانب".

وفضلا عما سبق، فإن الكتاب يقدم عدة رؤى حول العديد من القضايا، وفي مقدمتها دور التاريخ وأثره في السياسة والمذاهب الإسلامية الموجودة على الساحة اليوم، وكيفية اصطناع ولاءات دينية وسياسية من خلال المساجد التي تبنى خارج الحدود الوطنية، والوظيفة التي تمارسها عمارة المساجد في خدمة الأداء الحكومي والتعبير عن الاتجاهات المذهبية والسياسية للدولة الراعية لها.

ومما يضفي على مادة الكتاب مصداقية أن للمؤلفة باعاً طويلاً في الكتابة في هذا المضمار، فقد أصدرت من قبل مؤلفا عن (القومية والسياسة في الشرق الأوسط الحديث، مع التركيز على الجمهورية الإسلامية الإيرانية). وقد وثّقت المؤلفة محتوى كتابها - محل قراءتنا - بشكل جيد، وأجرت في مرحلة إعداده مقابلات مع العديد من المهندسين المعماريين ذوي الصلة بالمسائل التي يطرحها الكتاب. كما أنها ضمنت هذا المرجع صوراً رائعة للمساجد التي درستها، فجمع كتابها بين الأمانة العلمية والنواحي الجمالية.

(كاتب مصري)

المساهمون