السلالة ولعبة الخِداع

السلالة ولعبة الخِداع

14 سبتمبر 2015
Getty
+ الخط -
إذا صادقنا على مقولة "لكلّ زمان رِجاله"، علينا مواصلة مستتبعاتها المنطقية: "لكلّ مكان رِجاله"، آخذين بالاعتبار الاستثناءات الكاسرة لهذه القاعدة. نخوض في مسيرة الشعوب والحضارات فنستخرج من صفحاتها استثناءات كنابليون، وبطرس الأكبر، والإسكندر المقدوني، وبسمارك، وسواها من الأسماء التي حفرت خلودها على صخرة التاريخ، متعمّدين تحاشي ذكر شخصيات عربية خشية نسيان بعضها، فتقوم قيامة المنحازين لهذا الفصل وإغفالهم لفصول أخرى!

ليست الغاية من هذه الكتابة التأريخ لقادة الدول وبُناتها، بقدر التطرق للأدب وفعل الزمن القاهر في الإبقاء على جزء منه ـ وهو قليل ونادر ـ، وإسقاط البقية من الذاكرة الحيّة. وهذا القليل النادر يمكن التعامل معه كاستثناء ومقياس في الوقت نفسه، وعادة ما يُسَمّى "كلاسيكيات" عابرة للثقافات: عابرة للزمان وللمكان، وبالتالي للّغات كذلك.

ثمة شواهد متّفق عليها مثل: "الإلياذة" لهوميروس، "تاجر البندقية" لشكسبير، "دون كيخوته" لسرفانتس، "الكوميديا الإلهية" لدانتي، "الأخوة كرامازوف" لديستويفسكي، "الحرب والسلام" لتولستوي، "المعطف" لغوغول، "حي بن يقظان" لابن طُفيل، "ألف ليلة وليلة"، "المحاكمة" لكافكا، "الثلاثية" لنجيب محفوظ، "ذئب البوادي" لهرمان هيسه، "العجوز والبحر" لهمنغواي.

وهذه كلها لا تَساجُل حولها إلا نسبياً. غير أنّ اللافت، في حالتنا الراهنة، التصنيم المتعمَّد للذات التي تكتب أدباً وكأنها هي صاحبة قرار الفرز التاريخي! فتراها تجاهد طوال الوقت، عبر الحضور الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي والتجوّل في بازارات الجوائز ومراكمة "الإنجازات" بوتيرة فلكية تدعو للعَجَب ـ لا الإعجاب ـ، جاهلة أو متجاهلة أنّ حاضرَها الخاصّ مجرد "فتاتة وقت" تذيبها أنهار المستقبل في أزمان قادمة لا تُحْصى!

جهود هائلة تُبذل لتخليد "صورة الحاضر" المصنوعة بشروط اللحظة، دون وعي حتمية تغيُّر شروط اللحظات القادمة وواضعيها: مقاربات نقدية باردة لا تجامل أو تحابي، أجيال جديدة بقراءات متخفّفة من سطوة الصورة المصنوعة القديمة، حركة دائمة لبوصلة الذائقة المتلقية، ما يعني تبدّل المعايير واختلاف التقييمات. ولا يسعنا إلّا الحكم على تلك الجهود الهائلة، لأفراد أدباء يبتغون الخلود والتأبّد، بالعَبَثَيّة التي لا طائل من ورائها إذا ما نُظر إليها بعيون الأزمان اللاحقة. ورغم هذا، فإنّ أصحابها يتكاثرون وكأنهم لم يقرأوا مسارات الأدب ومصائره.. كأنهم لا يكتبون نصوصه!

قد تنجح هذه السلالة من الأدباء في أن تتلبّس مقولة "لكلّ زمان ومكان أدباؤه"، بفضل تلك الصناعة، ولكن إلى حين. وكلّما تقادمَ الوقت، تآكلَت الصورة تدريجياً وباخت ألوانها إلى أن تصل حدّ النسيان. يحدث هذا ما دام بريقُ نصوصهم لم يسطع من أوراقها: ما دام بهوت الكتابة الأدبية تَجَمَّلَ بألوان "الصورة" المصنوعة كبورتريه لأصحاب تلك الكتابات، فتزول من الزمان والمكان معاً.

ثمة أوقات نتذكرها راجت فيها أسماء، وكتب، لم يرفعها أصحابها إلى مستوى "الثبات"، ودرجة "المقررات اللازمة" وحدهم؛ بل كانت جهات حزبية ورسمية مَن دفعَت بها لتصبح، وسط الحماسة السياسية وهياجها، من "الشهادات" الدالّة على ثقافة القارئ. وفي هذا الأمر تساوت المعارضات السياسية الممثلة بأحزاب، بالسلطات الحاكمة الماثلة في وزارات الثقافة ومؤسساتها. تساوى الطرفان في احتكامهما إلى معيار واحد: الأيديولوجيا والانحياز لها. أما الوسيلة، فتتلخّص بالدعاية! بالبروباغندا ونُقّادها، بصرف النظر عن الأدب وشروطه الفنية.

وهكذا مورست لعبة خِداع للذائقة وتزييف للوعي، ولو لفترة قصيرة. ثم ما لبثت صفوف تلك الآداب/ الكتب، التي احتلّت رفوفاً في المكتبات الشخصية، أن أُنزِلَت من عليائها!

لقد تغيّرت شروط اللحظة، وزال بريق الألوان في وعي قارئ امتلك ذائقته وصاغ معياره.

فماذا عن تلك السلالة؟ ماذا عن لعبة الخِداع؟

(كاتب وروائي أردني)

المساهمون