عن محترفات الكتابة

عن محترفات الكتابة

02 ديسمبر 2015
مدرسة في العراق (Getty)
+ الخط -
يشكو الدرس اللغوي الخاص بالعربية من عدّة عوائق، أهمّها الكِتاب المدرسي الذي حوّله اعتماد المدرّسين عليه بشكل كلي إلى عائقٍ أمام التعلّم بعدما كان وسيلةً له. كما يرزح تحت وطأة القواعد بعدما رهَنْنا تعلُّم العربية بتعلّم القواعد. والحال أنّ اللغة يتمُّ تعلّمها باللغة ومن خلال اللغة، ولنا دليل واضح في الدَّوارِج المحكية التي يتلقّاها الأطفال دونما حاجةٍ إلى النّحو وقواعده ولا إلى الإعراب وتمارينه.

ولعل التحرُّر من ربقة الكتاب المدرسي وتحرير اللغة من وطأة درس القواعد يستدعي إتاحة الفرصة أمام التلاميذ لتفجير طاقاتهم من خلال لغة حرَّة متحرِّرة. ومثل هذا الرّهان لا يمكن إنجازه دون اللجوء إلى الأدب. أولًا، من خلال حصص القراءة الحرّة التي تثير التلاميذ وتوقظ الشعراء الكامنين داخلهم. ثمّ عبر محترفات الكتابة التي تخلق لهم علاقة وجدانية مع اللغة، وتحرِّضهم على الخيال وعلى التعبير الحرِّ باللغة ومن خلالها عن ذواتهم وأحلامهم.

ولنا في المغرب تجربة لافتة لشاعر ظلّ يشرف لأزيد من عقد من الزمن على محترفاتٍ للكتابة في عددٍ من المؤسسات التعليمية في الرباط، وهو الأديب أحمد العمراوي الذي بسط تجربته في مؤلَّفه "الكتابة الإبداعية والمتخيّل الشعري للتلاميذ"، حيث قدَّم عدداً من التجارب التي استضاف لها أدباء مغاربة انطلق من نصوصهم لفتح آفاق القراءة والتأويل الحرّ أمام النّاشئة، قبل أن ينشر ثمرات هذه المحترفات من نصوص التلاميذ في كتابه.

لكن هذه المحترفات لا تحتاج فقط إلى تلاميذ متحفّزين، بل يلزمها انخراط مدرّسي العربية في رهان كهذا. وتكمن المفارقة في أنّ عدداً من الأدباء العرب المشتغلين في سلك التدريس ينزعون قبعة الأديب بأبواب فصولهم، ظنّاً منهم ألا مجال للإبداع في فصلٍ دراسيٍّ محكوم بالمقرّر المدرسي. لذلك، أعتبِرُ كتاب "أوقات جميلة لأخطائنا النّضرة" للقاص الفلسطيني زياد خدّاش شهادة مرجعية قد تحفّز أدباءنا المشتغلين في حقل التربية والتعليم على تغيير مواقفهم.

يفتتح خدّاش كتابه بالتوضيح التالي: "لم أحلم يوماً أن أكون مدرّساً. تورّطت في المهنة، وما زلت بسبب انعدام الخيارات. ولما كان التدريس برأيي اغتيالاً لروح الإنسان فينا، فقد اضطررت للبحث عن طرق التفافية لقتل القتل". هكذا، بعد بضع سنوات من توزيع الأوامر بصرامة، والعبوس في وجوه التلاميذ، وانتظار انتهاء الحصة ونهاية العام الدراسي، قرّر زياد أن يقتل الأستاذ القديم داخله ويفسح المجال للمبدع: "ما دمتُ كاتبًا أعيش أغلب وقتي خلف السور كتابة وحياة، فلماذا لم أحاول تدريب طلابي على القفز معي والطيران؟".

محاولات الطيران هذه وثّق لها خدّاش وهو يقترح علينا عبر فصول هذا العمل تدريباته الصَّفِّية على ممارسة القفز من النوافذ وعِناق الحلم، تجربته في تدريس الكتابة الإبداعية للتلاميذ، معاركه الضارية مع منهاج اللغة العربية المصاب بفقر الخيال.

إن اشتغال عددٍ من الأدباء العرب في التدريس، وفي تعليم اللغة العربية بالذات، فرصةٌ يمكن المراهنة عليها لتحرير هذه اللغة، والتحريض على الخيال، وتفجير طاقات التلاميذ. كما أن المدرّسين، من غير الكتّاب، يمكنهم من خلال محترفات الكتابة أن يفتحوا أبواب مدارسهم وفصولهم للأدباء، ويبرمجوا نصوص أبناء مناطقهم من الكتّاب. فالتلاميذ سيتحمّسون أكثر وهم يقرأون أدباً يتحدّث عن مدنهم وقراهم، وسيزداد حماسهم بالتأكيد إذا ما وجدوا أنفسهم أمام أدباء يمكنهم الاتصال بهم والتواصل معهم، وبل وطلب صداقتهم عبر الفيسبوك. ولا ريب أنّ هذه المحترفات ستشكّل فرصة أمام الأدباء لاكتساب قاعدة جديدة من الجمهور الفتيّ النقيّ الذي لا تشوب تلقّيه الخالص شوائب النقد والصحافة الأدبيين، المحكومين أحياناً بمنطقي المعاداة والمحاباة.

(كاتب وشاعر مغربي)

المساهمون