العثمانيون ودول الخليج... ماضٍ منسيّ وحاضر مغيب

العثمانيون ودول الخليج... ماضٍ منسيّ وحاضر مغيب

16 ديسمبر 2015
غلاف الكتاب (استانبول 2014)
+ الخط -

الانطباع الأول الذي خرج به من حضروا حفل الإعلان عن الفائزين بـ "جائزة الشيخ حمد الدولية للترجمة والتفاهم الدولي" في الدوحة، مساء الأربعاء 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 أن "الجائزة ذهبت إلى من يستحقها"، حيث بدأ الإعلان باسم الفائز بالجائزة الأولى للمترجم فاضل بيات، وصولا إلى المنظمة العربية للترجمة التي ترجمت ونشرت حتى الآن أكثر من 300 عنوان من أهم المؤلفات.

بينما غدا فاضل بيات اسما معروفا في العقدين الأخيرين بعمله الدؤوب في ترجمة الوثائق العثمانية وتحليلها وتقديمها للباحثين العرب مصدراً في دراساتهم لتاريخ العرب الحديث تحت الحكم العثماني الذي استمر نحو 400 سنة، بداية بالتحاقه بجامعة آل البيت الأردنية ثم انضمامه إلى لجنة تاريخ بلاد الشام في عمّان، وأخيرا عمله في مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية (ارسيكا) التابع لمنظمة العمل الإسلامي. ينطلق مشروع بيات الكبير من تجاوز الاختلاف حول طابع الدولة العثمانية التي حكمت العرب ما يقارب أربعة قرون في ما إذا كان استعمارا عثمانيا أو توسعا عثمانيا، إلى التوافق حول أهمية الوثائق العثمانية (نحو مئة مليون وثيقة) لتقديم رؤية أكثر موضوعية عن تاريخ المنطقة تحت الحكم العثماني.

وفي هذا السياق يركّز بيات على اختيار الوثائق المتعلقة بالمنطقة العربية من "دفاتر المهمة" التي تتضمن الأحكام السلطانية حول مختلف القضايا الإدارية والاقتصادية والاجتماعية التي تتعلق بالبلاد العربية، بناء على التقارير التي تصل السلطان من الولاة والتظلمات التي تأتيه من الرعية. وهذه المهمة ليست بالهيّنة لأن الأمر يتعلق بقرابة 400 مجلد تحتوي على عشرات الآلاف من الوثائق باللغة العثمانية التي لا بد من فرزها واختيار ما يتعلق منها بالبلاد العربية ومن ثم ترجمته ونشره حسب الأصول العلمية.

وقد بدأ بيات هذه المهمة الشاقة في عمان خلال عمله في لجنة تاريخ بلاد الشام حين أصدر ثلاثة مجلدات من "بلاد الشام في الأحكام السلطانية الواردة في دفاتر المهمة" (عمان 2005-2007) التي تتضمن أقدم ما ورد فيها عن عهد السلطان سليمان الثاني 1520-1566. أما بعد انتقاله إلى استانبول ومجاورته الأرشيف العثماني فقد وسّع الدائرة التي تشملها هذه الوثائق وأصدر ثلاثة مجلدات عن "أرسيكا" بعنوان "البلاد العربية في الوثائق العثمانية" 2010-2014، حيث يركز كل مجلد على منطقة أو موضوع معين.

وإذا أخذنا آخر ما صدر في هذه السلسلة والتي كانت السبب بفوزه بجائزة الشيخ حمد، وأعني الجزء الثالث "استانبول 2014"، يبدو جليا أهمية المشروع الذي نذر بيات نفسه له، فهو يلقي أضواء جديدة على منطقة الخليج مثلا، ويوفر للباحثين والمؤرخين معطيات مهمة من الدرجة الأولى تفيدهم في أبحاثهم لتقديم صورة أكثر موضوعية عن تاريخ البلاد العربية تحت الحكم العثماني. وبعبارة أخرى، لم يعد من الممكن تجاهل مثل هذا الكنز من الوثائق العثمانية، التي تم تجاهلها في السابق بحجة صعوبة اللغة العثمانية وصعوبة الوصول اليها في الأرشيف بسبب العرقلة البيروقراطية، بعد أن أصبحت مترجمة ومفهرسة في متناول الجميع.

ومع تصفّح هذا المجلد الذي تغطي وثائقه أواخر عهد السلطان سليمان القانوني 1560-1966 تتضح بعض المعطيات الإدارية التي تتعلق بأقصى امتداد وصل إليه العثمانيون في المنطقة في ضوء الصراع العثماني -البرتغالي العنيف على الخليج، وبعض الفساد في الإدارة العثمانية الجديدة. حيث وجدت الدولة العثمانية نفسها فجأة، بعد فتح بغداد من أيدي الصفويين في 1534 وضمّها البصرة أيضا في 1546، في مواجهة الأسطول البرتغالي الذي كان يسيطر على الخليج. ومع نجاح العثمانيين في طرد البرتغاليين من حصن القطيف في 1547 يظهر في الوثائق الموجودة في هذا المجلد، الملامح الادارية للولاية العثمانية الجديدة (الأحساء)، حيث تشير الوثائق الموجودة هنا إلى لوائين/سنجقين فيها: لواء القطيف ولواء العيون. وفي هذا السياق نجد بعض الوثائق التي تتحدث عن الصراع العثماني-البرتغالي في الخليج وآثاره على سكان المنطقة وصولا إلى الصلح بين الدولتين الذي جرى في 1564.

ومن الوثائق المهمة هنا لدينا اثنتان تعودان إلى عام 1560 تعرضان لمفارقة صعبة، ألا وهي وقوع السكان في الولاية الجديدة (الأحساء) بين المطرقة والسندان: الخطر البرتغالي من ناحية وتمادي بعض الولاة العثمانيين من ناحية أخرى. ففي الوثيقة الأولى التي تعود إلى 18 أيار/مايو 1560 لدينا تقرير قدم إلى السلطان عن مهاجمة البرتغاليين للقطيف بالتحالف مع بعض البدو، وعن لجوء جامعي الضرائب من الإدارة العثمانية الجديدة إلى الضغط على الرعية لدفع ضرائب أكثر مما جعل الرعية "يستغيثون من ذلك"، ومن هنا يأتي الحكم السلطاني في التاريخ المذكور لإبطال ذلك. أما في الوثيقة الثانية التي تعود الى 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1560 فلدينا ما هو أكثر من ذلك، حيث تعرض الوثيقة لصدور أمر باعتقال أمير اللواء عثمان وآمر قلعة الأحساء لتورطهما باختلاس أموال من الخزينة العامة. وفي هذا السياق أيضا لدينا وثيقة تعود إلى 18 أيار/مايو 1560 تتعلق بحكم سلطاني يأمر بإعادة الأملاك المصادرة في ولاية الأحساء للتاجر البحريني جمعة بن رحال من قبل الوالي مصطفى بك، كذلك تشرح الوثيقة كيف أن هذا التعسّف أدى إلى تراجع صيد وتجارة اللؤلؤ في المنطقة، والذي كانت تستفيد منه الدولة العثمانية عن طريق الضرائب.

ومن ناحية أخرى توضح بعض الوثائق الموجودة هنا، الهاجس الدائم من هجمات البرتغاليين على موانىء الخليج التي تتبع الإدارة العثمانية الجديدة، وبالتحديد على بندر القطيف وميناء الأحساء، حيث كانت السفن البرتغالية تنطلق من ميناء هرمز لتهاجم هذه المراكز. ومن هنا يرد حكم سلطاني في 18 أيار/مايو 1560 لبناء قلعة في العقير قرب الأحساء على أمل أن يؤدي ذلك "الى إحياء الولاية وإعمارها"، وهو "ما سيكون له نفع كبير للمال الميري" أي لخزينة الدولة.

وعلى الرغم من الصلح الموقع مع البرتغال في 1564، الذي تبعه قيام الحاكم البرتغالي في هرمز، بخصوص طلب الإذن للحج إلى القدس في شباط /فبراير 1565، إلا أن التوتر بقي ملموسا في الاستعداد لجولة أخرى للحرب. وفي هذا السياق تكشف بعض الوثائق هنا عن تواطؤ بعض التجار في حلب لشراء الأسلحة وإرسالها للعدوين اللدودين للدولة العثمانية في الخليج، وهما البرتغال وإيران. ففي وثيقة تعود إلى 7 أيلول/ سبتمبر 1565 يتضح أن بعض تجار حلب باع الأسلحة وغيرها من المواد الممنوعة إلى البرتغاليين في الخليج أو إيران.

ومع التركيز هنا على الوثائق التابعة للخليج فقط، على اعتبار أن المعطيات المتوفرة عنه في بداية الحكم العثماني ضئيلة، لدينا وثائق مهمة عن البلاد العربية الأخرى، اليمن والحجاز والعراق وبلاد الشام ومصر وطرابلس الغرب وتونس وحتى المغرب (الذي تبع لفترة بسيطة الدولة العثمانية) تلقي الضوء على الأوضاع الإدارية والاقتصادية والاجتماعية خلال تلك الفترة المؤسسة للحكم العثماني هنا وهناك. وبالاستناد إلى ذلك يمكن القول إنه مع هذه الوثائق المنشورة هنا (135 وثيقة) لدينا صورة أكثر موضوعية عن البلاد العربية خلال الحكم العثماني الجديد، فيها ما هو مشرق (الدفاع عن هذه البلاد ضد الاحتلالين البرتغالي والإسباني) وفيها ماهو غير ذلك (التجاوزات المختلفة على الرعية التي تنتهي بإصدار أحكام سلطانية رادعة). وبذلك لم يعد من المقبول تجاوز مثل هذه الوثائق في الأبحاث التي تتناول الخليج بشكل خاص، والبلاد العربية بشكل عام خلال الحكم العثماني.

أكاديمي كوسوفي/ سوري

اقرأ أيضا
عن جائزة الشيخ حمد للترجمة

المساهمون