السلطة الفلسطينية وسيناريو الانهيار

السلطة الفلسطينية وسيناريو الانهيار

25 اغسطس 2019
تعيش السلطة مجموعة من الأزمات (عباس مومني/ فرانس برس)
+ الخط -
ساءت في الآونة الأخيرة أحوال السلطة الوطنية الفلسطينية، حتى وصلت إلى مرحلة تنذر بانهيارها وسقوط أركانها الحكومية ومؤسساتها السيادية، إذ إنها في حالة من التراجع المستمر بدت ملامحه للعيان مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس عاصمة لدولة إسرائيل، وما تلى ذلك من إجراءات وخطوات اتخذتها إدارته في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي تصبّ جميعها في مصلحة دولة الاحتلال الإسرائيلي، ومنحازة بشكل سافر لها وتتنكر للحقوق الفلسطينية، عدا ترويجه لصفقة القرن التي تهدم كل ما قبلها من اتفاقيات سلام، وتدشن مشروعاً آخر لا يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني ولا يصل به لدولة مستقلة، ذلك في ظل توقف مفاوضات التسوية السلمية بين دولة الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية وانسداد الأفق السياسي أمامها بشكل تام، وفقدانها البعد والدعم العربي فقد سارعت دول عربية بمدّ يدها للاحتلال الإسرائيلي، وقدمت تنازلات غير مسبوقة على حساب القضية الفلسطينية في سبيل تحقيق مصالحها، وركضًا وراء حماية نفسها من أخطار محتملة داخلية وخارجية تهدد أنظمتها وعروشها. وبدا واضحًا أن السلطة خسرت مساراتها ومرتكزاتها السياسية على الصعيد الإقليمي والدولي، وحُشرت في خيارات ضيقة لا تتجاوز ردود فعل أشبه ما تكون بأنين من يعاني سكرات الموت.

تواجه السلطة الفلسطينية اليوم على الصعيد الداخلي تحديات كبرى، تعصف بمؤسساتها كافة وتخفق في أرجائها أزمات مختلفة تقضمها قطعة قطعة وتنهش من جسدها بلا هوادة، فعلى الجانب المالي والاقتصادي ونتيجة لوقف الاحتلال الإسرائيلي تحويل أموال المقاصّة لها فُتحت على السلطة مشاكل ضخمة تَعجز ميزانيتها عن تحمل تبعاتها، ودفعتها لتقليص رواتب موظفيها إلى النصف في أفضل الأحوال، وإن كانت التحديات المالية هي الطافية على السطح الآن، فذلك لأنها واحدة من أكثر العوامل التي قد تؤدي إلى انهيار السلطة تأثيرًا وأهمية، وقد تقلصت قدرة السلطة على ضبط الميدان والسيطرة على الساحة والمواطنين الفلسطينيين وفرض الأمن وهيبة القانون في مناطق سيطرتها، نتيجة لسوء سلوكها وفشل إدارتها لمؤسساتها وأجهزتها، وأدّت الاقتحامات المستمرة والمتكررة بسبب وبلا سبب مقنع، التي تقوم بها قوات الجيش الإسرائيلي في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية وخاصة في مدينة رام الله، التي ينظر إليها كعاصمة للسلطة ووصولها في أكثر من مرة إلى مقارّ السلطة الأمنية المركزية في المقاطعة، وإقدامها على اعتقال من تشاء أو اغتيال من تشتبه به دون اعتبار لقوات الأمن الفلسطيني، وقيامها بمهامّ هدم للمنازل الفلسطينية ومصادرة ممتلكاتهم، وإغلاق المؤسسات والجمعيات، دورًا مهمًا في تهمّش مكانة السلطة والتقليل من قدرها ومكانتها في الشارع الفلسطيني، وخلق حالة من الاستخفاف بها لدى الفلسطينيين والمراقبين والشعور بأنها عديمة السلطة والقرار.

أُنشئت السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994م، بعد إبرام اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، لتلبي بالأساس مجموعة من الأهداف الاستراتيجية بعضها مرتبط بالتطلعات الوطنية الفلسطينية والآخر بالمصالح الحتمية الإسرائيلية، فقد توقع الفلسطينيون أن تصل بهم السلطة إلى دولة فلسطينية مستقلة على حدود الـ 67 عاصمتها القدس الشريف، تخلصهم من عربدة الاحتلال وبطشه ومن الاضطرار للتعامل معه مباشرة في معاملاتهم اليومية وشؤونهم الحياتية، إلا أنها وبعد ربع قرن من إنشائها لم تحقق السلطة حلم الدولة، ولم تصل بالفلسطينيين إليه ولا إلى السيادة والاستقلال، ووجد المواطن الفلسطيني نفسه محكومًا لإجراءات الاحتلال ومزاج ضباطه في أغلب ما يتعلق بشؤون حياته اليومية وخاصة على الحواجز ونقاط التفتيش المنتشرة في كافة مناطق الضفة، عدا اضطراره مكرهًا في كثير من الحالات للتعامل مع المنسق العسكري - الذي يعتبر بأنه هو الحاكم الفعلي للضفة المحتلة - من أجل إنجاز معاملاته ومصالحه التي كان إنجازها في الأصل منوطًا بالسلطة الفلسطينية ومؤسساتها الحكومية.

هذا على الجانب الفلسطيني، أما في ما يخص الجانب الإسرائيلي فقد أقدمت إسرائيل ومهدت وساعدت على قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف على رأسها فتح باب تطبيع العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، والتوصل لإبرام اتفاقيات سلام معها تنهي حالة الحرب والنزاع، وتمهد لقبول دولة إسرائيل كجزء أساسي وطبيعي في المنطقة، إضافة إلى رغبة قيادة الاحتلال بالتخلص من أعباء إدارة شؤون الفلسطينيين وإيجاد قوة فلسطينية تنسق معها وتساعدها على تحييد وإحباط أي عمل يمكن أن يشكل خطرًا على إسرائيل ومواطنيها، لكن وبعد عملية السور الواقي عام 2002 استطاعت القوات الإسرائيلية تدمير البنية التحتية للمقاومة والقضاء على خلاياها وأذرعها المنظمة، ومن السيطرة على مفاصل الضفة بشكل محكم، ويمكن اعتبار العملية أول خطوة في طريق إنهاء السلطة وتقليص صلاحياتها وتحجيم نفوذها ودورها، وها نحن اليوم نتابع ونشاهد كيف تجاوزت إسرائيل الحاجة للسلطة في ما يخص علاقاتها مع الدول العربية، ووصلت إلى التطبيع المباشر مع الأنظمة العربية، بل تجاوزت ذلك بسعيها في محاولات جادّة لتشكيل حلف وغرفة عمليات مشتركة مع الدول العربية، تكون إسرائيل جزءاً أساسياً منه لمواجهة الخطر الإيراني.

السلطة أقرب إلى سيناريوهات الانهيار منها إلى الاستمرارية والبقاء في حال بقي الوضع الراهن على ما هو عليه واستمر الهبوط التدريجي والغرق في الأزمات والمعضلات، فقد خَلُصت توقعات جهات أمنية إسرائيلية نشرتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية، تفيد بأن السلطة ستدخل مرحلة الانهيار في بداية عام 2020، وأكدت الأمم المتحدة في تقرير لها أن السلطة الفلسطينية على وشك الانهيار الاقتصادي والسياسي، لكن السلطة وعلى الأرجح لن تقدم على حلّ نفسها لأنها في نظر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وشريحة من الشعب الفلسطيني، إنجاز وطني كبير وإرث نضالي يجب الحفاظ عليه وعدم التفريط فيه، أما تهديد السلطة بحلّ نفسها الذي صدر عن قيادات نافذة فيها على رأسهم الرئيس محمود عباس، الذي صرّح في أكثر من مناسبة بأنه سيحل السلطة ويسلم مفاتيحها للاحتلال، وتصريحات رئيس وزرائه محمد اشتية مؤخرًا لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية، الذي حذّر فيها من أن السلطة قد تنهار خلال ثلاثة أشهر وتعلن إفلاسها، فيأتي في خانة التلميح بوقف التنسيق الأمني وتحذيرًا لإسرائيل من إمكانية إقدام السلطة على ذلك كخيار متاح في يدها، في حال استمرت في الاقتطاع المالي من المقاصة.

استنفدت السلطة أسباب وجودها وصارت على ما يبدو حملًا ثقيلًا وعقبة في وجه التوسع الإسرائيلي والأطماع العربية التطبيعية التي تتجه نحو تجاوز السلطة إلى السلام الإقليمي، وليس من المستبعد في حال أحرزت صفقة القرن تقدمًا حقيقيًا ووجدت الإدارة الأميركية فرصة سانحة لإنفاذها، ولم تتعاط قيادة السلطة مع معطياتها وأصرّت على مواقفها ولم ترضخ للرغبة الأميركية، أن تعمل واشنطن وتل أبيب على إسقاط السلطة وإيجاد بديل لها يخضع للسيادة الإسرائيلية ويقبل بالتعايش مع الاحتلال، ويحكم بما يتناسب مع المصالح الإسرائيلية دون أي تطلعات سياسية أو مطالبة بالحقوق الفلسطينية.

على الفلسطينيين أن يسعوا بشكل جادّ وحثيث للحيلولة دون سقوط السلطة، مع التأكيد في ذات الوقت على ضرورة وإلزامية إصلاحها وتحريرها من الارتهان لسلطات الاحتلال، والتوقف عن التنسيق والتعاون مع أجهزته الأمنية. وتبرز هنا الحاجة كضرورة وطنية كبرى إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وإنهاء الانقسام، وإصلاح وتفعيل المؤسسات السيادية الفلسطينية وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية، وتوسيعها لتشمل تحت لوائها كل أطياف وأحزاب ومكونات المجتمع الفلسطيني، إذ إن سقوط السلطة دون وجود بديل فلسطيني وطني لها يعني إغراق الضفة بالفلتان الأمني وفوضى العصابات المسلحة ما يترتب عليه ضياع الحقوق وتفكك المجتمع الفلسطيني، ولن يكون ذلك في صالح القضية الفلسطينية في شيء.

المساهمون