إسناد السلطة... مشروع لهندسة الضفة الغربية

إسناد السلطة... مشروع لهندسة الضفة الغربية

23 فبراير 2019
شاع الاستهلاك وتراجعت الروح الثورية (عباس مومني/فرانس برس)
+ الخط -
بدت الضفة الغربية وكأنها على أبواب مرحلة سياسية واقتصادية جديدة بعد التغير في رأس السلطة عقب رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، ثم تبلور العهد الجديد وبدأت ملامحه في البروز بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة وإحكام السلطة الفلسطينية قبضتها على الضفة الغربية بعد عام 2007، ومع تسلم سلام فياض رئاسة الوزراء وهو الاقتصادي الذي عمل لسنوات في البنك الدولي فإن توجه السلطة بدا واضحاً بانخراط دولي أكبر وبجوانب اقتصادية طاغية وميدان عمل أوسع في ترسيخ مؤسسات الحكم، وتعزيز سلطة القانون، وتحقيق متطلبات الأمن لتعبيد الطريق أمام الدولة المستقبلية المنشودة.
تم إقرار خطّة إصلاح السلطة الفلسطينيّة المعروفة بخطّة المائة يوم، لتنظيم ماليّة السلطة الفلسطينيّة وتعزيز مؤسسات السلطة كشرط مسبق لتنفيذ الالتزامات الواردة في خريطة الطريق "خطة إنهاء انتفاضة الأقصى"، وأهمّها نزع سلاح المقاومة الفلسطينيّة، وبعد صيف عام 2007 وتشكل حكومة سلام فياض كانت الرؤية الأميركية وبالضرورة الإسرائيلية تقتضي إبراز نموذجين متمايزين، نموذج الازدهار والرخاء الاقتصادي وسيادة القانون والاستقرار الأمني وتمثله الضفة الغربية، ونموذج الفقر والبؤس والبنية التحتية المتهالكة وغياب سلطة القانون ويمثله قطاع غزة.
تبنت حكومة فياض صيغة مبتكرة تنسجم مع رؤية الطريق الثالث التي يمثلها فياض في المجلس التشريعي الفلسطيني، بعد أن فشل "من وجهة نظرهم" الخيار الأول المتمثل في المقاومة المسلحة وما آلت إليه الأمور خلال انتفاضة الأقصى، ووصول الخيار الثاني وهو مشروع التسوية إلى طريق مسدود بعد صعود اليمين الصهيوني إلى الحكم والقضاء عملياً على الأرض على الجوانب التي تخص الفلسطينيين في اتفاق أوسلو، تمثلت المقاربة الجديدة في تحقيق تنمية اقتصادية، وبناء مؤسسات حديثة تجسد مبادئ الحكم الرشيد، وتعزيز الأمن وسلطة القانون، وبالمحصلة تشكيل واقع ونموذج حكم أمام العالم، يرسخ قناعة بأن الفلسطينيين قادرون على إدارة أنفسهم بطريقة تسمح لهم بالحصول على دولة معترف بها دولياً، وهو ما ترجم عملياً في برامج حكومات السلطة المتوالية بعد عام 2007 والتي ركزت على أبعاد ثلاثة: بناء المؤسسات، "التنمية" الاقتصادية، الأمن، والحديث لا يدور عن كامل الجغرافيا الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو وإنما فقط عن الضفة الغربية، وهو ما ينسجم بالكامل مع مخطط اليمين الصهيوني بالسلام الاقتصادي، ومع مخطط دايتون للسلام أو الاسم الرسمي "خطة عملية للرئاسة الفلسطينية لعام 2007" التي أعدتها الإدارة الأميركية في مارس/ آذار 2007 بعد توقيع اتفاق مكة للمصالحة والذي فشل بعد أسابيع من توقيعه، وتشمل ثلاثة محاور؛ السياسة والحكم، والمحور الاقتصادي والسياسات الأمنية، وتناول المحور الاقتصادي رواتب الموظفين، وحركة الأموال والبضائع، والمشاريع التنموية، وتضمن البند الأخير(المشاريع التنموية) إعداد خطة عمل بالتنسيق مع البنك الدولي والاتحاد الأوروبي تحدد القطاعات الأساسية والمجالات والمشاريع التي تحتاج للتمويل، خلال مدة 6-9 أشهر، تركز بشكل اساسي على مواجهة وتخفيف الفقر والبطالة.
جاء مؤتمر أنابوليس الذي عقد في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، ومؤتمر باريس "للدول المانحة للدولة الفلسطينية" في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2007 تتويجاً للجهود الدولية لإسناد السلطة الفلسطينية ودعم مشاريعها التنموية في الضفة الغربية مالياً، وأقر مؤتمر باريس الخطة التي أعدها فياض وهي “خطة الإصلاح والتنمية متوسطة الأمد للأعوام 2008-2010"، ونجح المؤتمر في تعهدات مالية بـ 7.4 مليارات دولار.
ووفقا لسلطة النقد الفلسطينية، تلقت السلطة مساعدات دولية بحوالي 9.246 مليارات دولار؛ 1.322 مليون دولار عام 2007، 1.978 مليون عام 2008، و 1402 ملايين عام 2009، و 1277 مليونا عام 2010، و977.5 مليونا عام 2011، و 932.1 مليونا عام 2012، و 1358 مليونا عام 2013، كما تلقت السلطة الفلسطينية بين 2012 و2016 ما يقارب 4.481 مليارات دولار من المساعدات، حوالي 40% منها من مانحين عرب و60% من مانحين أجانب
وشجعت إسرائيل أيضا على زيادة الأموال الواردة إلى الضفة الغربية، وتقليص حجم البطالة من خلال السماح لمزيد من الأيدي العاملة في الضفة الغربية للعمل داخل فلسطين المحتلة ومستوطنات الضفة، وبحسب تقديرات دائرة الإحصاء الفلسطيني يملك نحو 80 ألف فلسطيني تصاريح عمل رسمية داخل المستوطنات والأراضي المحتلة عام 1984، بالإضافة إلى عشرات آلاف العمال بلا تصاريح، وهؤلاء تصعب معرفة عددهم، ويعتبر قطاع البناء الأكثر استقطابًا للعمال، وبعده الزراعة ومن ثم الصناعة، وبحسب التقديرات الرسمية الإسرائيلية، تدر رواتب العمال في إسرائيل على الاقتصاد الفلسطيني من 1.8-2.2 مليار دولار سنويًا، أي نحو 40% من الاقتصاد الفلسطيني الكلي، وتصرف معظم هذه الأموال في السوق الفلسطيني.

شيوع ثقافة الاستهلاك
في ظل الوفرة المالية النسبية، وارتفاع المدخولات، ونشاط المؤسسات الدولية في رام الله وغيرها من مدن الضفة، برزت طبقة مميزة من رجال الأعمال والساسة والتجار وكبار الموظفين في قطاعي الأمن والوزارات الحكومية، كما ازدهرت بعض القطاعات حصراً كمشاريع البنية التحتية والعقارات وقطاع البنوك، طبعاً لم يكن قطاع الإنتاج من بينها، وساعدت البيئة العامة على الاستهلاك من خلال تشجيع قطاع البنوك بتقديم تسهيلات للحصول على قروض قصيرة وطويلة الأجل، ووفق سلطة النقد الفلسطينية فإن حجم التسهيلات التي حصلت عليها مدن الضفة الغربية خلال العام 2012 (القروض الشخصية وقروض القطاع الخاص، ولا تشمل قروض القطاع العام)، بلغت نحو 2.3 مليار دولار، مقابل 429 مليون دولار في قطاع غزة، وخلال العام 2017 بلغت القروض التي حصل عليها عملاء البنوك من الضفة الغربية 5.5 مليارات دولار، بينما بلغت 986 مليون دولار في غزة.

مدينة روابي نموذجاً لفكرة السلام الاقتصادي
في سياق العهد الجديد للسلطة الفلسطينية في الضفة تم إقرار تشييد مدينة روابي في مؤتمر بيت لحم الاقتصادي عام 2008، وتم الشروع في إقامة المدينة عام 2012 على تلال شمال شرق رام الله، بتكلفة 1.4 مليار دولار، بشعارها الرسمي "سكن، عمل، حياة"، تهدف إلى بناء مدينة حديثة، تناسب وصف الجنرال الأميركي دايتون بـ"الفلسطيني الجديد"، وهي نموذج للمدينة الحديثة الذكية المزدهرة، تعبر عن قيم العمل والإنتاج والتسامح بعيداً عن العنف والصدام والقتلى والجرحى، وتضم في ثناياها طبقة ثرية تمتد إلى قطاع من الطبقة المتوسطة التي تجد لها مثيلا في المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي لا يمكن النظر إلى مدينة روابي إلا في سياق مشروع السلام الاقتصاديّ، حيث تعمل على إعادة تصنيع الاحتلال بطرقٍ جديدة تتناسب مع التحوّل في صيغة التسوية المنشودة وطغيان وتجاوز البُعد الاقتصادي للإطار السياسي الأعم والأشمل.

تراجع الروح الثورية وانحسار في القيم الوطنية
رغم التضحيات وعمليات المقاومة البطولية وروح الصمود التي يبديها قطاع عريض من القاطنين في الضفة الغربية، إلا أن المشهد العام خلال السنوات القليلة الماضية يوحي بأن الروح الثورية المعهودة تاريخياً في الضفة الغربية خاصة سنوات انتفاضة الأقصى تراجعت، والقيم الوطنية وروح المبادرة لمقاومة الاحتلال استبدلت بقيم الحرص على بعض المصالح والتحسب أكبر من الاحتلال وإجراءاته، وهذا ما تجسد في غياب تحرك جماهيري أو غضبة عارمة خلال حروب غزة الثلاث وسقوط آلاف الشهداء والجرحى، وكانت ردة الفعل باهته لا ترقى لمستوى الأحداث، وأقرب إلى ردة فعل لا تتجاوز ردات فعل في مناطق مجاورة، كما أن ردات الفعل لم تنسجم أيضاً مع تغول الاحتلال على المسجد الأقصى وتدنيس المقدسات، ولكن عندما أعلنت حكومة السلطة الفلسطينية قانون الضمان الاجتماعي عام 2018 الذي يشمل خصم 7% من الراتب لصالح صندوق الضمان خرج عشرات الآلاف على طول مدن الضفة الغربية وعرضها على مدى أسابيع حتى أوقفه الرئيس محمود عباس بعد شهرين من إقراره. ويبدو مما سبق أنّ الخطط الموضوعة لتدجين الفلسطينيين في الضفة الغربية قد نجحت.

المساهمون