عام "دفن" المصالحة

عام "دفن" المصالحة

29 ديسمبر 2019
لا يمكن اختزال المصالحة في خلافات على السلطة(عبدالحكيم أبورياش)
+ الخط -
لم يتميز العام 2019 عن الأعوام السابقة في عدمية مسألة المصالحة وإنهاء الانقسام، والدوران حول النقطة نفسها دون الوصول إلى أي نتائج حقيقية، مع تحميل كل طرف للآخر مسؤولية الفشل، ولكنه تميز بتراجع وتيرة الحديث عن مبادرات أو جهود أخرى لتحقيقها، ربما لترسخ قناعة بأن المصالحة وضعت على الرف لسنوات أخرى مع اليأس شبه الكامل من تحقيقها، وهذه قناعة غالبية الشعب الفلسطيني الذي بدأ يتأقلم مع واقع تأبيد الانقسام ويبحث عن مسارات أخرى في ظل تراجع الحالة الوطنية، خاصة في الضفة الغربية، والرغبة الجامحة للهجرة لدى قطاع عريض من الشباب العاطل في غزة، وبعدما طرح مشروع الانتخابات بدعوة من الرئيس عباس في الأمم المتحدة حتى كانت الرغبة الجارفة للأغلبية الفلسطينية وحسب كل استطلاعات الرأي في المضي قدماً في الانتخابات رغم مخاطرها، علها تكون مخرجاً للحالة الفلسطينية المتدهورة، وتشكل مساراً جدياً ينهي متاهة الانقسام ويعيد اللحمة السياسية لجناحي الوطن بعدما عجزت كل الحوارات والمبادرات عن حلحلة حالة الانقسام.

وللحقيقة كانت هناك مبادرة من ثمانية فصائل فلسطينية في قطاع غزة أُعلن عنها في أيلول/ سبتمبر 2019، وهي مبادرة جادة في محتواها بالنظر إلى مضمونها الذي يتناول المسألة الوطنية، ويمس جوهر الخلاف المتمثل بالشراكة الوطنية، والبرنامج الوطني المشترك الذي يجمع الكل الفلسطيني، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني بعد إعادة بنائها، أعلنت حركة حماس قبولها لها ولكن حركة فتح رفضتها مباشرة داعيةً إلى الذهاب للانتخابات كحل جذري للانقسام.

يتضح من سنوات مشوار المصالحة الذي انطلق عام 2009، أن مسألة المصالحة لا يمكن اختزالها في خلافات سطحية على السلطة، أو لسوء تقدير من قيادة الفصيلين الفلسطينيين، أو لمجرد خلافات سياسية في تناول الاستراتيجية والتكتيكات في التعاطي مع الاحتلال، بل هو خلاف خرج عن سياقه الفلسطيني ليتحول إلى شأن إسرائيلي داخلي بالدرجة الأولى، وشأن إقليمي تتقاطع مصالح مكوناته مع المصالحة أو عدمها، بالإضافة إلى الولايات المتحدة التي رفعت من وتيرة تدخلاتها في الشأن الفلسطيني بشكل أكثر سلبية منذ انتخابات عام 2006، وما ترتب على ذلك من حصار ومقاطعة بعد شروط الرباعية الدولية المعروفة، وصولاً إلى الانقسام.

ولتفكيك وفهم جوهر الانقسام وفشل كل محاولات المصالحة لا بد من تشريح موقف الأطراف ذات الصلة، خاصة حركتي فتح وحماس، بالإضافة إلى الطرف الإسرائيلي. تنظر حركة حماس للمصالحة من بوابة توحيد النظام السياسي الفلسطيني على أساس متين من الشراكة الوطنية، ولملمة الكل الفلسطيني على قاعدة برنامج وطني مشترك يمثل الحد الأدنى لما يتم الاتفاق عليه وطنياً، وإعادة بناء منظمة التحرير على أسس وآليات جديدة بما يضمن تمثيل كافة أطياف الشعب الفلسطيني، وبالنسبة للقطاع فإنها لا يعنيها التمسك باستمرارها في إدارة غزة بقدر اهتمامها بسلاح المقاومة كحق مقدس لا يمكن التفريط به، وعدم التخلي عن أكثر من 40 ألف موظف، والذين تقول حركة فتح إنهم من حركة حماس. أما حركة فتح، فإنها ترى في المصالحة عودة لما يسمى بـ"الشرعية" لقطاع غزة وتجاوز كل الحقائق التي تشكلت في القطاع بما فيها قضية الموظفين بعد عام 2007، وأن السلاح الوحيد الذي يجب أن يبقى هو سلاح السلطة الشرعية أي سلاح الأجهزة الأمنية، تحت شعار "سلاح وقانون وسلطة واحدة".

أما الاحتلال، فيرى في المصالحة تمكينا لسلطة الرئيس عباس من غزة، وإدارة الأمن والشأن الحياتي اليومي من وزارات وأجهزة أمن السلطة، مع ما يتطلبه ذلك من نزع سلاح المقاومة وتفكيك بنيتها التحتية، وإلا فإنه لن تكون هناك مصالحة على الإطلاق، بمعنى أن المصالحة بالنسبة للاحتلال هي تعميم تجربة التنسيق والتعاون الأمني التي ترسخت بعد نهاية انتفاضة الأقصى عام 2005 في الضفة الغربية، بما يتطلبه ذلك من ملاحقة المقاومة ومصادرة سلاحها، وإشاعة ثقافة الاستهلاك والقروض والوظائف والسفر على حساب قيم الولاء والانتماء.

حركة حماس كانت حتى عام 2013 في فسحة من أمرها في غزة، ومن خلال سلوكها السياسي وتعاطيها مع مبادرات المصالحة في تلك المرحلة تبين أنها لم تكن متحمسة وأنها ليست في عجلة من أمرها، غير أن الانقلاب العسكري في مصر وقطع خطوط الإمداد عبر أنفاق الحدود وإغلاق معبر رفح، وصعود أسهم الثورات المضادة، وتراجع معظم حلفاء الحركة في سياق الحرب على "الإسلام السياسي"، وجدت حماس نفسها في ضائقة استراتيجية يتوجب عليها البحث عن حلول من خلال المصالحة أو غيرها، غير أن عقبة الموظفين الذين تجاوز عددهم 40 ألف موظف في ظل رفض حركة فتح الاعتراف بهم، وسلاح المقاومة الذي تصر السلطة أن يكون ضمن مسؤولياتها.

أما حركة فتح فتعاطت مع مسألة المصالحة على أنها مسار يجب أن ينهي "انقلاب حركة حماس" على الشرعية الفلسطينية، كونها صاحبة الشرعية المعترف بها دولياً، وأن حماس مجرد فصيل مسلح تحدى السلطة في غزة وسيطر على الحكم، أي أن مفهوم الشراكة الوطنية غائب تماماً، وقد شرعت السلطة الفلسطينية في تطبيق سلسلة عقوبات على قطاع غزة في آذار/ مارس 2017، لإجبار حماس على التخلي عن سيطرتها على غزة، وعندما وقع اتفاق المصالحة في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 طالبت السلطة وحركة فتح بـ"التمكين"، أي تسلم الوزارات والأجهزة الأمنية في رام الله كافة السلطات والصلاحيات دون اعتبار لكل ما هو موجود من هياكل وموظفين ومؤسسات ترسخت عبر سنوات الانقسام.

بالإضافة إلى الفيتو الإسرائيلي على المصالحة الحقيقية، والتي لا تنهى سلاح المقاومة، هناك فيتو من النظام العربي الذي ينتمي إلى معسكر الثورات المضادة ويخوض حرباً وجودية مع "الإسلام السياسي"، وهو لا يرغب بأي وجود لحركة حماس لا في السلطة ولا في المقاومة، أما الإدارة الأميركية فلها حججها الخاصة التي تتماهى مع الرؤية الإسرائيلية للمصالحة وفي غير المصالحة في كل ما يتعلق بالشأن الفلسطيني.

وتكمن العقبة الكأداء في نفوذ الاحتلال على السلطة الفلسطينية بفضل قنوات التنسيق الأمني وسيطرة الاحتلال الحقيقية على الضفة الغربية، وعدم قدرة السلطة وحركة فتح على المبادرة بخطوات حقيقية في المصالحة وفي الشأن الوطني الفلسطيني دون اعتبار للرأي الإسرائيلي، وهذا ما ينسحب أيضاً على السلوك الأميركي وموقفه من المصالحة والذي لا يتجاوز السقف الإسرائيلي.

وبالتالي فإن حدوث اختراقات حقيقية في مسألة المصالحة خلال العام 2020 والأعوام المقبلة تبقى محدودة وربما مستحيلة، ما دام واقع السلطة الفلسطينية على ما هو عليه، وما دام الواقع العربي الموزع بين مناطق حروب ودول تدين أنظمتها بالولاء لإسرائيل وللإدارة الأميركية.