عن المناورة الانتخابية

عن المناورة الانتخابية

27 أكتوبر 2019
+ الخط -
تطمح شعوب العالم إلى الحرية والحياة الديمقراطية، وإلى خوض التجربة الانتخابية بشكل دوري، على اعتبارها أداة للحكم وتبادل السلطة، والوسيلة الأكثر نجاعة، حتى الآن، لفرض حكم الشعب، أو بالأصح لمشاركته في الحكم وسبر تطلعاته وأهدافه. وهو ما ينطبق أيضا على الفلسطينيين التواقين لممارسة حقهم في الانتخاب والمشاركة في الحياة السياسية من دون ذعر أو خوف، ودون حواجز استبدادية وأمنية ومالية تكبلهم، وتحظر عليهم تداول ما تكرهه وترفضه السلطة المتحكمة في أي من أماكن وجودهم داخل وخارج فلسطين، وبالتأكيد في كل من الضفة وغزة. إلا أن خطاب أبي مازن الأخير في خضم الدورة الـ 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي تطرق في ختامه إلى عزمه الدعوة لإجراء انتخابات عامة في كل من الضفة وقطاع غزة والقدس، قد ولد مشاعر القلق والتوجس، وربما الذعر، في الوسط الفلسطيني، بدلاً من الفرح والترقب والحماسة، مما يتطلب تفسير ذلك.

فمن ناحية، تبدو الدعوة وفق صياغتها الحرفية مجرد مناورة سياسية ترمي إلى الضغط على كل من الاحتلال وحركة حماس، وخصوصا الأخيرة إن أخذنا بعين الاعتبار السياق العام الذي سبقها، والذي تناول موضوع الانقسام، وحمل حركة حماس وحدها مسؤولية استمراره حتى الآن؛ إذ ينهي أبو مازن دعوته هذه بعبارة " وسنحمّل من يعترض على الانتخابات المسؤولية أمام الله والمجتمع الدولي والتاريخ"، وكأن ذلك هو الغرض الحقيقي والوحيد من الدعوة إلى الانتخابات. بمعنى أن أبا مازن يدرك صعوبة إجراء انتخابات عامة اليوم في ظل الانقسام والصراع الفلسطيني- الفلسطيني، كما يدرك عجز سلطة رام الله عن إجراء أي انتخابات في القدس دون قبول وموافقة الاحتلال، بل يعول على رفض الطرفين لها، أو بالأصح على رفض الاحتلال إجراءها في القدس، وتحفظ حماس على إجرائها دون خطوات تمهيدية مشتركة توفر الحد الأدنى لها.

كما يدرك الحصانة الدولية التي يحظى بها الاحتلال مهما أوغل في الإجرام، وهو ما سوف ينطبق على رفض الاحتلال إجراء أي انتخابات فلسطينية في القدس، بل حتى ولو رفضها في الضفة أيضا. لذا نرجح أن الدعوة الانتخابية هذه عبارة عن مناورة سياسية يتطلع أبو مازن إليها كأداة من أجل تصفية حساباته مع أطراف وقوى فلسطينية أبرزها حماس، لكنها قد تطاول مراكز قوى أخرى قد تكون جزءا من بنية السلطة الراهنة أو في مرحلة سابقة، أو ربما من أجل تصفية حسابات داخل حركة فتح نفسها؛ إذ لا يكترث أبو مازن لمبادئ الحياة الديمقراطية، ولا بحقوق الفلسطينيين الوطنية والتاريخية على امتداد سنوات حكمه. بل حتى في السنوات التي سبقت توليه رئاسة السلطة ومنظمة التحرير وحركة فتح، على الرغم من تستره آنذك خلف خطاب ديمقراطي كاذب كان مجرد وسيلة لمصارعة سيطرة أبي عمار على الجسم السياسي الفلسطيني.

فلو انطلقت دعوة أبو مازن الانتخابية من منطلقات وطنية بحتة كان لا بد لمجموعة من الإجراءات أن تسبقها كي تمكنها من ملامسة وربما بلوغ أهدافها الوطنية، كإفساح المجال العام أمام جميع الآراء والمواقف السياسية المختلفة عن توجهات السلطة، بما فيها تلك الرافضة لحل الدولتين وللعملية السياسية، وكان عليه إيقاف جميع القرارات والإجراءات السلطوية العقابية بحق قطاع غزة، والتي تساهم في حصار القطاع وإغراقه في وضع إنساني صعب وغير محتمل، ويتبعه بفرض المصالح الفلسطينية على جميع الأطراف الفاعلة فيها من خلال الرضوخ لإجماع القوى السياسية الفلسطينية، كما كان من الأجدى له الدعوة لانتخابات فلسطينية عامة يشارك فيها جميع أبناء الشعب الفلسطيني داخل وخارج البلد، وأن تشمل منظمة التحرير الفلسطينية أيضا أو بالأصح تبدأ بها، على اعتبارها خطوة من أجل مراجعة وتحليل مسار حركة التحرر الفلسطينية، وفرصة لإصلاح ما يمكن إصلاحه وتغيير ما يستعصي على المعالجة.

إذا لم تنطلق دعوة أبو مازن من اعتبارات وطنية داخلية لافتقادها الوسائل والأدوات الضرورية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية. ولا تهدف كذلك إلى تعرية الاحتلال وكشف إجرامه وانتهاكه للحقوق الفلسطينية، لأن الاحتلال لا يدخر جهداً في ذلك، عبر القتل والترحيل القسري والحصار وبناء وتوسعة المستوطنات وإقرار التشريعات العنصرية البغيضة، ومئات التصريحات الرسمية الأخرى العلنية أمام مرأى ومسمع العالم أجمع. ولا يمكن اعتبار الدعوة استجابة لضغوط المانحين والمجتمع الدولي، لعدم جدية هذه المطالب والضغوط، حيث لا يكترث المجتمع الدولي لأي من الحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها الحقوق المدنية والإنسانية والديمقراطية، فهي مجرد وسيلة ضغط اقتصادية وسياسية تسعى إلى فرض مزيد من التنازل والاستسلام الفلسطيني الرسمي بالحد الأدنى. الأمر الذي يحتم على جميع الفلسطينيين الوطنيين داخل وخارج فلسطين رفض هذه المناورة السلطوية والتمسك بحق جميع الفلسطينيين في انتخابات حقيقية تشملهم جميعا، في أجواء ديمقراطية حقيقية تتيح الفرصة لعرض جميع الآراء ميدانيا وإعلاميا، بفرص عادلة ومتساوية دون تمييز بين توجه وآخر، مما يفتح الباب أمام المراجعة الفلسطينية الشاملة، ويسمح للشعب الفلسطيني بتبني ممثليه السياسيين وبرنامجه الوطني الذي يمثله ويمثل أهدافه الوطنية كاملة.

المساهمون