نشاطات العودة في الداخل المحتل

نشاطات العودة في الداخل المحتل

29 ابريل 2018
نريدكم أن تكملوا المسيرة (العربي الجديد)
+ الخط -
لم تعد مسيرات ونشاطات العودة إلى القرى المهجرة عام 1948، في الداخل الفلسطيني، مجرد فعاليات عابرة، ولكنها باتت تتخذ أبعاداً جديدة، ليس على مستوى رفع الوعي لقضية المهجّرين واللاجئين فقط، وإنما حتى على مستوى رسم الآمال ورفع سقف الطموحات والتوقعات، بأنها قد تفضي يوما ما إلى استعادة هذه البلدات المنكوبة وإعادة إعمارها، وبتنا نجد اليوم رسومات وصوراً للحياة التي سادتها قبل أن تهاجمها العصابات اليهودية.
واليوم نجد أيضا من يطمح إلى استخدام ركام البيوت الأصلية، لبناء حجر فوق حجر، وإعادة بعض المعالم إلى المباني التي كانت ذات يوم تنعم بالأمن والسلام. هذا عدا عن أن النشاطات المختلفة التي تشهدها القرى المنكوبة باتت لها أوجه اجتماعية وإنسانية لم تكن معهودة. وتعتبر قضية القرى المنكوبة والنشاطات المتعلقة بها، واحدة من القضايا التي ما زالت تلاقي إجماعا من قبل فلسطينيي الداخل، في ظل تفرق مواقفهم على مذبح القضايا الإقليمية. وعاما بعد عام، بات أهالي القرى المهجرة أكثر حضورا على أراضيها وتمسكا فيها، إذ كسر الجيل الثاني والثالث للنكبة، مخاوف الجيل الأول.
أمين محمد علي، الشهير باسم "أبو عرب"، عضو لجنة الدفاع عن حقوق المهجرين والذي ترأسها لنحو 8 سنوات، ينحدر من قرية صفورية المهجّرة عام 1948 ويسكن في مدينة الناصرة المجاورة. ويرى أبو عرب أن مسيرة العودة منذ نسختها الأولى بدأت تفرض واقعا جديدا.
وأوضح في حديث لـ "العربي الجديد"، أن "جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين" التي تأسست منذ نحو 25 عاما، "أقيمت على ضوء منع المفاوض الفلسطيني من طرح قضية المهجرين في الداخل على طاولة أوسلو، ورضخ في النهاية لموقف المفاوض الإسرائيلي الذي اعتبر هذه القضية داخلية. السلطة الوطنية الفلسطينية اعتبرت تحرك الجمعية تشويشا على مسار أوسلو، وبعد مرور نحو أربع سنوات اتضح لها أكثر موقف الجمعية، وبدأت علاقة طبيعية مع السلطة الفلسطينية".
ويعتقد أبو عرب أن "من اهم إنجازات هذه الجمعية قضية حق العودة التي هي مربط الفرس والتي لم يكن الكثيرون يهتمون به، فطرحناه ورسخناه وأصبح مطلبا، سواء على مستوى الداخل أو الخارج. شعار "يوم استقلالهم يوم نكبتنا" الذي نحيي به مسيرات العودة، وآخرها المسيرة الحادية والعشرون، فرض نفسه على المؤسسة الإسرائيلية وإعلامها. قبل نحو 25 عاما كانوا يحمّلون طلابنا وأطفالنا أعلام إسرائيل ويطلبون منهم إنشاد "عيد استقلال بلادي"، فيما اليوم طلابنا وشبابنا يحملون علم فلسطين ويطالبون بالعودة".
وأكد أبو عرب "في كل عام نطلب من كل المهجرين أن يزوروا قراهم صباحا ومن ثم المشاركة بمسيرة العودة القُطرية عصرا. هذا الأمر لم يكن سائدا من قبل. باعتقادي من خلال مسيرة العودة السنوية، نشاهد أمورا لم تكن من قبل، مثل أن يكون الأب العجوز ومعه أولاده وأحفاده فيحدّثهم عن البيت والقرية وعن طرد الاحتلال لأهلها. هذا يدل أين كنا وأين نحن اليوم، وأين يجب أن نكون بمفهوم العودة. هذا يعتبر إنجازا هائلا. عندما نستذكر رهان القيادات الصهيونية بأن كل شيء سيُنسى بعد رحيل الجيل الأول عن الحياة، نجد أنه قد فشل. نحن نطالب بالعودة لبيوتنا وقرانا، وننتظر السلام الحقيقي العادل والشامل والذي يعتمد في نظرنا على أمرين يعتبران استحقاقا، أولهما اعتراف الصهيونية بالجريمة التي اقترفتها عصاباتها بحق أهلنا في عام 1948، والأمر الثاني عودة جميع اللاجئين والمهجرين، لتنتهي حلقة الدم المستمرة منذ 70 عاما. المطلب بعودة اللاجئين والمهجرين ليس من نسج أفكارنا ومخيلتنا وإنما بموجب قرار 194 في الأمم المتحدة والذي وافقت عليها إسرائيل قبل أن تخدع هيئة الأمم والعالم بعدم تطبيقه".
اختتم أبو عرب حديثه: "عملنا خلال السنوات الماضية، على قضية مهمة لم يكن الكثيرون ينتبهون لها، وهي نزع الخوف من أهلنا وشبابنا وصغارنا. اليوم غالبية من يشاركون بمسيرات العودة شباب وشابات، لا يخشون ما كان يخشاه أجدادهم".

خوف وجهل
موافقاً ما بدأ به أبو عرب، يوافق المحامي والناشط نضال عثمان، عضو لجنة أهالي قرية الدامون المهجرة عام 1948، على أن مسيرة العودة "أحدثت تغييرا حقيقيا لدى 3 أجيال منذ النكبة المستمرة".
ويفصّل عثمان أكثر لـ "العربي الجديد" بالقول: "الجيل الأول كان يخشى الحديث عن موضوع النكبة، وبقي ذلك على امتداد فترة الحكم العسكري (1948-1966) وحتى لمراحل لاحقة. الخوف سكن أبناء هذا الجيل فلم يتحدثوا عما تعرضوا له. أكثر من ذلك هنالك أشخاص كبروا ولم يعرفوا إلى أي مكان تعود جذورهم. هذه الظاهرة لاحظتها من خلال مشاركتي بنشاطات موجودة أيضا في مناطق الضفة الغربية، فعلى طرفي الخط الأخضر نجد أشخاصا شبابا من أبناء الجيل الثالث للنكبة بالعشرينات والثلاثينات من أعمارهم لا يعرفون جذورهم وكأن أصلهم من البلدات التي يوجدون فيها اليوم. هذه الأمور اكتشفناها من خلال مخيمات تواصل فلسطيني فلسطيني، وكنا نلمس الأمر وأنه لم يُحكَ لهم عن الموضوع حتى اليوم".

علاقات إنسانية واجتماعية عابرة للحدود
الفعاليات في القرى المهجرة، عززت العلاقات والأواصر الاجتماعية والانتماء. وشرح عثمان في هذا السياق، بأنه "فيما يخص الداخل، فإن توَزُع أهالي القرى المهجّرة على عدة بلدات، دفعهم لمحاولة بناء كيان خاص بهم في البلدات التي لجأوا إليها، باتخاذ إطار سياسي أو اجتماعي او انتخابي وغيره، لكن ارتباطهم بقريتهم الأم ومعرفتهم بها، بدأ يظهر أكثر برأيي في الجيل الثاني والثالث للنكبة، وتجلى بجرأة أكبر، مع ازدياد الوعي وانفتاح وسائل الإعلام. ما ساهم في رفع وتعزيز الوعي أيضا، نشاطات جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين، التي بدأت منذ أكثر من 20 سنة برأيي. وأهمية النشاطات والمسيرات القطرية والمحلية تكمن في نقل الرواية وربط الجيل بهذه القرى، خاصة أن غالبية الكبار الذين وُلدوا في القرى ، رحلوا عن الدنيا، وهذا دفع لتوثيق الرواية وليس نقلها شفويا فقط من قبل من تبقوا على قيد الحياة. أيضا هنالك موضوع التواصل بين أبناء البلد أنفسهم الموجودين في بلدات مختلفة في الداخل، ولاحقا التواصل مع المهجرين واللاجئين في الخارج، وهذا أعطى لهفة للاهتمام أكثر بالقرى وتفاصيلها وحكاياتها. فاللاجئون في الشتات بدأوا يوجهون أسئلة واستفسارات لمن تبقوا في الداخل ما دفعهم لاهتمام أكبر في بلداتهم، وزيارتها وتصويرها لتوفير إجابات لأهل الشتات. هذا التواصل مع الأرض كان مفيدا. نجد اليوم نشاطات سنوية منظمة وثابتة وتتطور من جيل إلى جيل".

ارتفاع سقف الطموحات
لا يخفي المحامي والناشط نضال عثمان ارتفاع سقف الطموحات والمطالب، بخصوص القرى المهجرة. وأكد في هذا السياق أن "السقف لما نريده من وراء النشاطات أصبح أعلى اليوم. فما تجدد ولم يكن في السابق، أنه بالإمكانات والتكنولوجيا الجديدة والفنانين وغيرهم أصبح متاحا إعادة تصوير أو تجسيد بناء القرية من خلال محاكاة لها أو لوحات. ونهتم اليوم بمحاكاة الحياة ما قبل التهجير وليس التهجير نفسه، لنقل صورة جميلة وإيجابية عن الحياة والعادات والتقاليد قبل النكبة. الحديث عن الحياة قبل التهجير قد يجعل الناس يتوقون لها ويرغبون في العودة إلى قراهم، وهذا مفيد للأجيال الجديدة. والمشاركة نفسها بنشاطات العودة، باتت فرحا، رغم أن الحديث عن نكبة، فنحن نحتفل بتواصلنا مع أراضينا وقرانا التي هُجّر أهلنا منها، خاصة أنه، ولسنوات، كان أهالي القرى محرومين منها. اليوم الأمور تطورت، فمثلا كان هنالك حفل زفاف، وإحياء لمناسبات خاصة على أراضي بعض البلدات وهذا نوع من أنواع العودة.
أفكارنا أيضا تتطور، وفكرنا أن نبني بيتا من الحجارة الموجودة حتى لو هدمته المؤسسة من جديد. هناك من اقترح أن نبدأ برفع حجارة البيوت. هذه أفكار لأشخاص رأوا التحركات النشاطات مما أعطاهم محفزا.
اعتقد أن هذه النشاطات بات تهدف أيضا إلى بلورة رأي عام خاص بأهالي كل بلدة مهجرة، ومن ثم رأي عام فلسطيني أوسع خارج حدود القرى، وثالثا يهودي للمطالبة بإعادة بناء القرى المهجرة. مثلا: استقبلنا مجموعات يهودية يسارية وشرحنا لها عن قرية الدامون التي بقيت أراضيها مهجورة حتى اليوم، وطالبنا بموقف داعم لإعادة إعمارها. كما تهدف لبلورة رأي عام عالمي، فهذا العام شارك معنا وفد فرنسي بزيارة إلى الدامون وعلى مدار العام تأتي وفود كثيرة".
وأنهى بالقول إن "المطلب القادم توقيع عريضة من أهالي الدامون المهجرة للمطالبة بإعادة بنائها مجددا، يوجه للمؤسسة الإسرائيلية وللأمم المتحدة، ونموذج الدامون يمكن أن يسري على الكثير من البلدات المنكوبة".


روح جديدة وأمل يتجاوز الأحزان
ناهدة زهرة، ناشطة ومرشدة متطوعة، تعود جذورها إلى قرية كفر برعم المهجّرة وتسكن اليوم في الجش. وقالت زهرة لـ "العربي الجديد"، إنه "من عام إلى آخر نجد زيادة في عدد المشاركين بمسيرات وفعاليات العودة، وهذا يدل على زيادة في الوعي والحراك في مجتمعنا، ليس من أهالي القرى المهجرة فقط ولكن من مجتمعنا عامة، فهذه قضية شعب بأكمله".
تأكيدا على منظورها الإيجابي للأمور، أضافت: "هناك قرى مهجرة لم يكن فيها حراك من هذا النوع، ونجد في السنوات الأخيرة أن قرى مهجرة أكثر تنضم إلى نشاطات مشابهة في السنوات الأخيرة. أعتقد أن ما قامت به جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين منذ مسيرة العودة الأولى، أثر إيجابا على هذا الحراك. في أوساط الجيل الثاني والثالث للنكبة نجد أن شريحة أكبر تواكب قضية القرى المهجرة، ودائما الطموح أن تنضم شرائح أكبر. ولا شك في أن النشاطات التي تقام على الأرض في القرى المهجرة، تؤثر إيجابا في الناس. أيضا نجد أن هنالك نشاطات وأفكارا ومشاريع جديدة تتطور من عام إلى آخر، بمشاركة الجيل الأول والثاني والثالث للنكبة. كل هذه الأمور ترفع من الزخم والوعي لقضية البلدات التي هُجر أهلها".
وفي معرض حديثها، أشارت ناهدة زهرة إلى أن "هنالك شريحة من أهالي بعض القرى المهجّرة، والذين لم يتحدّثوا أبدا عن القرى التي خرجوا منها. سنوات وسنوات دون أن يتطرقوا للموضوع كأنه لم يكن، ولكن هناك من تمكن من التواصل مع هؤلاء الناس وإقناعهم بأهمية الحديث عن قضيتهم وتوثيقها. بعض هؤلاء من كفر عنان المهجرة ويسكنون اليوم في قرية الرامة في الجليل.
النشاطات هذه تمنح الأمل للكثيرين. ونرى كم الأمور صعبة على مهجر أن يسرد قصة بلدته كشاهد حي، ولكن في ذات الوقت هذا قد يمنحه الأمل، ليخاطب الأجيال الجديدة: "نريدكم أن تكملوا المسيرة. هذا الأمر نراه عند الكثير من كبار السن. هنالك بطبيعة الحال لحظات انكسار ويأس، ولكن عندما نوجد ونكون مع مجموعات يطغى جانب الأمل والتفاؤل على كبار السن أن الأولاد والأحفاد سيحملون الراية ويتابعون المسير. هذه الروح تتعزز من عام إلى آخر في السنوات الأخيرة، وهي التي لم تكن موجودة على مر سنوات خلت. هذا الأمل يمتد أيضا إلى الأجيال الجديدة".