هل كان هناك حل دولتين؟

هل كان هناك حل دولتين؟

19 مارس 2017
+ الخط -
ربما كان الأمل بنشوء دولة فلسطينية إلى جانب "دولة إسرائيل" يتلاشى خلال عقد ونصف العقد من التفاوض، إذ ظهرت المماطلة الصهيونية مترافقة مع التوسّع في مصادرة الأرض وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية، وفرض جدار العزل والطرق الالتفافية، والتي كلها كانت تشير إلى سياسة صهيونية تهدف إلى السيطرة الكاملة على الأرض.

لكن وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في أميركا وإعلانه أنه لا يوافق على حلّ الدولتين بل يؤكد على الدولة الواحدة، فرض الحديث عن الدولة الواحدة التي كان تلاشي الأمل بحلّ الدولتين يؤسس "القاعدة" التي تجعلها تطفو بسرعة إلى السطح. وعلى الرغم من التراجع الجزئي الذي قام به ترامب، فقد أصبح الأمر في غاية الوضوح بعد أن أخذت تتسرّب تصورات صهيونية تؤكد على ضم المناطق C، والتي هي المناطق التي ظلت تحت السيطرة الصهيونية بعد الانسحاب من المدن، وهي المناطق الزراعية أساساً، والتي ظلت مجال نهب من قبل الدولة الصهيونية لبناء المستوطنات فيها. وهذه تشكّل نسبة تقارب الـ 60% من مساحة الضفة الغربية. ومن ثم إعطاء السكان "حكماً ذاتياً موسعاً"، مع تجاهل وضع قطاع غزة.

هل في ذلك مفاجأة؟ وهل كان يحتاج الأمر إلى تصريح ترامب لكي نعرف أن المنظور الصهيوني ينطلق من ضم الضفة الغربية وإعطاء السكان حكماً ذاتياً؟
ربما كانت هذه النتيجة توضّح الوهم الذي بدأ منذ سنة 1974 مع طرح "برنامج النقاط العشر"، والذي كان يشير إلى بداية انحدار في رؤية "المقاومة الفلسطينية" نحو هاوية أسستها أوهام في الغالب. وإذا كانت هذه البداية هي الخطوة الأولى في منحدر تقدّم تدريجياً، ووفق تنازلات متتالية، وصولاً إلى اتفاق أوسلو، وكان يراهن على إقامة دولة فلسطينية على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة (20% من أرض فلسطين) فقد كان يضخّم من تخيلات هي نتاج "أذهان مريضة". كل ذلك رغم وضوح المنظور الصهيوني، وإعلان رؤيته لمصير الأرض والسكان في المناطق التي جرى احتلالها سنة 1967. ورغم أن الوضع الدولي القائم على هيمنة الإمبريالية كان يدعم هذا المنظور، بغض النظر عن الأوهام حول الحرب الباردة وما يمكن أن تسمح به بفرض حل سياسي يعطي الفلسطينيين دولة على هذه الأرض.

فقد أعلن القادة الصهاينة منذ ما بعد الاحتلال الجديد سنة 1967 لاءاتهم، ولم تكن تخفي ذلك أو تشكك فيه. وكانت اللاءات هي: لا للانسحاب من القدس، ولا للانسحاب من غور الأردن، ولا لإزالة للمستوطنات، ولا عودة للاجئين، ثم لا لدولة فلسطينية. هذه لاءات معلنة منذ زمن طويل، ولم تكن أوسلو سوى خطوة من أجل تحقيقها، حيث أوجدت سلطة ذاتية معنية بقمع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة دون أن تمنع توسع السيطرة على الأرض وتوسيع الاستيطان، لهذا وضعت أرض الضفة الغربية في الحالة C، والتي تبقيها تحت السيطرة الأمنية الصهيونية (فـ A التي تشمل المدن، حيث الكثافة السكانية، تكون تحت سيطرة السلطة، وB تكون تحت سيطرة مشتركة، وهي مناطق ذات كثافة سكانية أقلّ وتشمل أراضي البلدان والقرى). وبالتالي فقد أمّن اتفاق أوسلو للدولة الصهيونية "احتلالاً ديلوكس"، كما سماه كتّاب صهاينة حينها، بحيث تقمع السلطة الفلسطينية الشعب الفلسطيني، وتكون الدولة الصهيونية مطلقة الحرية في السيطرة على الأرض وتوسيع الاستيطان.

وإذا كان هناك من القيادات الفلسطينية، ومن الفصائل الفلسطينية من يحلم بـ "دولة مستقلة وعاصمتها القدس" فقد كان يهيم في تخيلات هي النتاج الطبيعي للشعور بالعجز، كما بالميل السلطوي الذي يعني حبّ وجود سلطة تحقق طموحاتهم "الصغيرة". رغم أن هذه التخيلات أفضت إلى دمار الثورة الفلسطينية، وتحويل الكثير من كادراتها من مناضلين إلى أداوات قمع، ومافيا فساد. وبالتالي، في سياق السعي الدؤوب للدولة الصهيونية لتوسيع الاستيطان وفرض الأمر الواقع، كان وضع الثورة الفلسطينية يسير في الاتجاه المعاكس، حيث كانت تنحدر شيئاً فشيئاً، لتصل إلى تحكّم نخبة مافياوية في سلطة شكلية، مع أدوات قمع تنفّذ الإرادة الصهيونية، إذ إنها تدربت على "مكافحة الإرهاب" الذي هو المقاومة، لأن الدولة الصهيونية تعتبر كل مقاومة هي إرهاب، وعلى تلك الأجهزة الأمنية أن تقيم عقيدتها على هذا الأساس بعد أن تدربت على يد الـ CIA ودول أخرى.

إذن، لم يكن حلّ الدولتين إلا تخيلاً لعقل مريض، وفخاً من قبل الدولة الصهيونية لكسب الوقت في سعيها للسيطرة على أرض الضفة الغربية. ولا شك أن الوضع الحالي يشير إلى التحكّم بالأرض وحصر السكان الفلسطينيين في معازل متناثرة، ويمكن فصلها بسهولة شديدة. لهذا كان من الطبيعي أن يصبح حل الدولة الواحدة متداولاً، وله قاعدة شعبية، وأيضاً أن تظهر استحالة قيام دولة فلسطينية نتيجة الوضع السكاني والجغرافي الذي تشكّل خلال خمسين سنة من الاحتلال. وبالتالي كان مسار حل الدولتين هو بالضبط مسار تصفية الثورة الفلسطينية من طرف بعد أن نهضت لتحرير فلسطين، وأيضاً مسار التغطية على السياسات الصهيونية التي كانت تريد كسب الزمن من أجل فرض السيطرة على الأرض التي جرى احتلالها سنة 1967، ولم يكن غير ذلك. لنصل إلى أن تصبح الثورة سلطة إدارة ذاتية كما أرادت الدولة الصهيونية على سكان وليس على أرض، باعتبار أن فلسطين كلها هي أرض إسرائيل، كما تقرر العقيدة الصهيونية، وأن تتحوّل إلى أجهزة أمنية معنية بحماية الوجود الصهيوني والدولة الصهيونية.

المشكلة هنا تتمثل في أن كل المنظات الفلسطينية أسهمت في هذا المسار، رغم معارضة البعض في بعض الأوقات، ومن ثم موافقتها بعدئذ. وهو الوضع الذي أفضى غلى انهيارها جميعاً، وتلاشي رمزيتها، وتحوّل أعضائها إلى "موظفين" في مؤسسات السلطة أو المنظمات ذاتها أو لدى مؤسسات المجتمع المدني، بعد أن كان الكثير منهم يناضل من أجل تحرير فلسطين. بالتالي يمكن القول إن الانجراف خلف حل الدولتين فرض تحوّل كثير من الثوار الذين يريدون تحرير فلسطين إلى أدوات قمع للشعب الفلسطيني حماية للدولة الصهيونية، أو "شكل سياسي" يغطي على ذلك.

باختصار لم يكن هناك حل يسمى حل الدولتين بالأساس بل كان طرحه صيرورة من أجل تحويل المناضلين إلى سلطة حكم ذاتي لدى الدولة الصهيونية، وإعطاء الوقت اللازم للدولة الصهيونية لإكمال السيطرة على الضفة الغربية، لتكون فلسطين دولة واحدة هي: "دولة إسرائيل".

(كاتب فلسطيني)


المساهمون