"البلغة" التونسية تندثر

"البلغة" التونسية تندثر

22 أكتوبر 2018
في دكانه الصغير (العربي الجديد)
+ الخط -

حرف تقليدية كثيرة تندثر اليوم، ولعلّ "البلغة" التونسية واحدة منها. ويحكي العم هاشم قصّته لـ"العربي الجديد" بشيء من الحسرة

في دكانه الصغير بالمدينة العتيقة من العاصمة التونسية، يحاول العمّ هاشم بحرون لصق نعل حذاء بعد إخراجه من قالب مخصص لصنع الأحذية الرجالية، قبل أن يخيط جانبَيه المصنوعَين من الجلد. لا يأبه لجدران الدكان المتهالكة، ويمضي في صنع الأحذية، ولا سيما البلغة، بأدواته التقليدية. هو واحد من قلّة ما زالت تمتهن هذه الحرفة، متمسكة بصنع الأحذية اليدوية على الرغم من تراجع الإقبال عليها، بسبب التجارة الموازية وإغراق السوق بالبضائع المقلدة.

عند الساعة السابعة صباحاً، ينطلق العمّ هاشم في عمله، فخوراً بحفاظه على صنع "البلغة" التونسية بكل أصنافها وألوانها ومقاساتها، ليبيعها لتجّار في المدينة العتيقة، وآخرين يقصدونه من مدن تونسية عديدة وكذلك من الجزائر وليبيا. ويقول وهو يواصل عمله، إنّ "صنع البلغة التونسية تدهور خلال السنوات الأخيرة وشهد ركوداً كبيراً، بسبب تراجع عدد الحرفيين الليبيين بسبب الحرب في بلدهم، ولم يبقَ إلا عدد من الحرفيين التونسيين والجزائريين الذين ينكبّون على صنع البلغة التقليدية التي باتت منافسة للبلغة المغربية". ويشير إلى أنه "قبل عشرين عاماً، كنت أبيع أكثر من ألف زوج من الأحذية، ولا سيما البلغة، في السوق التونسي شهرياً، إلى جانب أكثر من ثلاثة آلاف زوج بلغة في الأسواق الليبية والجزائرية. حينها، كان ثمن البلغة الواحدة ربع دولار أميركي أو أقل".

و"البلغة" هي الخفّ في تونس، وينتعلها جميع سكان البلاد، سواء الرجال أو النساء، بحسب ما يؤكد العمّ هاشم. ويشرح أنّ "البلغة الرجالية تكون عادة من لون واحد، أما تلك المخصصة للنساء فألوانها مختلفة وتُزيَّن برسوم وخطوط عربية أو حتى أمازيغية، وهي تُنتعَل أساساً في الأعراس.



ويحكي العمّ هاشم عن البلغة فيما ينهي الزوج الخامس لهذا اليوم. ويخبر أنّ "أكثر من 200 حرفيّ كانوا يتوزّعون في السوق العتيق الذي يفوق عمره 200 عام، ويشغّلون الشبان معهم. من جهتي، تعلّمت هذه الحرفة من جدّي، مذ كنت في الخامسة من عمري". يضيف: "حينها كنت أذهب إلى سوق الدباغين (صانعي الجلود) في المدينة العتيقة حيث تُصبَغ الجلود وتُشدّ، حتى تصير جاهزة لمختلف الصناعات". ويشير إلى أنّ "الجلود تُحضّر وتُصبغ بطريقة يدوية في دكاكين الدباغين، ومن المفضّل أن تكون جلود أبقار أو أغنام أو ماعز". ويتابع العمّ هاشم: "كنت أجلب من ذلك السوق ما أتمكّن من حمله في عربتي الصغيرة إلى سوق البلاغجية (صانعي البلغة). وفي البداية، تعلّمت قصّ الجلد وفق الشكل المطلوب للحذاء أو للبلغة، ثم كيفية شدّه على قالب الصنع، وبعدها تشكيل البلغة ولصقها وخياطتها".

منهمك في البلغة الرجالية (العربي الجديد) 


والأدوات التي كانت تُستخدَم في صنع البلغة، بحسب ما يوضح العمّ هاشم، هي "أدوات بدائية بسيطة، وما زلنا حتى اليوم نستخدمها، من قبيل المطرقة والمسامير والقالب الخشبي الذي يحدّد شكل الحذاء والموادّ اللاصقة ومستلزمات الخياطة اليدوية، أي الإبرة التي تسمّى المخطاف أو الميبر، على الرغم من انتشار الآلات الحديثة". ويلفت إلى أنه "في السابق، كنّا نشتغل بأعداد كبيرة في الدكان الواحد، ليتجاوز عدد العمّال فيه العشرة. وكان كلّ واحد يوكَّل بمهمة واحدة، إما بسط الجلد ليبقى ناعماً وإما قصّه وفق الأشكال المطلوبة، أو شدّه على القالب أو تشكيل البلغة أو الحذاء المطلوب. أما اليوم، فأنا أشتغل بمفردي وأقوم بكل تلك المهام. فأنا متمسّك بهذا العمل، بالإضافة إلى عدم إقبال الشبان على تعلّم هذه الحرفة اليدوية التقليدية". لكنه يأسف لأنه لم يعد اليوم يبيع للتجار إلا 100 زوج من البلغة شهرياً بقيمة خمسة دولارات للبلغة الواحدة، فيما تُباع في سوق التجزئة بعشرة دولارات أو أكثر قليلاً.



في واجهة دكانه، يرصف العمّ هاشم ما صنعه من قطع بمختلف أشكالها، وبذلك يعرضها أمام المارّة سواء كانوا أفراداً عاديين أو تجّاراً. وفي داخل الدكان، يوضّبها في صناديق كرتونية لتسليمها للتجار. وبغصّة يقول: "أنجز كلّ ذلك بمفردي. حتى أبنائي رفضوا تعلّم هذه الحرفة التي أشعر بأنّها سوف تندثر بمرور الوقت، لا محالة".

على مدى أكثر من خمسين عاماً، مكّنته حرفته من كسب صداقات عربية في مختلف دول شمال أفريقيا، مشيراً إلى "بيع البلغة للجزائريين والليبيين، نظراً إلى تشابه لباسهم مع لباسنا نحن التونسيين. كذلك، باتت البلغة تُنتعَل في الأفراح والمناسبات التي يعمد فيها الجزائريون والليبيون، على غرار التونسيين، إلى ارتداء أزياء تقليدية بعدما غابت عن الحياة اليومية". لكنه يؤكد في المقابل أن "آلافاً من كبار السنّ ما زالوا يتمسّكون بانتعال البلغة في حياتهم اليومية، على الرغم من انتشار الأحذية الحديثة".

دلالات