هؤلاء كانت لهم حياة

هؤلاء كانت لهم حياة

20 سبتمبر 2017
ممّ تشكو الشواطئ العامة؟ (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

ليس بعيداً عن اليوم، كان "نقٌّ" موظّف يتذمّر من طبيعة عمله أو راتبه وما إلى ذلك، يُقابل بـ "نقّ" الموظّف الذي كان قبل قليل في دور المصغي. عادة ما تُختم أحاديث كهذه، بما يشبه عبارة "خاتمة الأحزان". ففي النهاية، ما من أحد سعيد أو راضٍ في عمله. خلاصة تمدّ الموظّف بطاقة لأيّام، قبل أن يعود إلى "النقّ". والموظّف إمّا يشعر بأنّه مظلوم بسبب عدم تقدير كفاءته، أو أنّ علاقته بمسؤوله مضطربة، أو أنّ الراتب لا يتناسب وقدراته، وغيرها.

سابقاً فقط، كان ذلك ممكناً. اليوم، انتقل الحديث إلى "أكل العيش". أتشكو؟ لا مجال للشكوى. فلان بات عاطلاً من العمل، ولا يعرف كيف يتدبّر أمره ليعيش. أتعرفه؟ لديه عائلة. هذا وذاك. بل إنهم كثر. أمّا كيف يتدّبرون أمورهم وكلفة الحياة اليوميّة، فهذه قصّة أخرى، ربّما تستحقّ النقّ.

كان ربيع يتوقّع البطالة. هي نتيجة حتميّة لمشاكله مع الإدارة في إحدى المؤسّسات التربويّة التي يعمل فيها. بطالة. الكلمة ثقيلة. هي تجربته الأولى في الحياة معها. حسناً، قال لنفسه إنّ الأمر لن يكون بهذا السوء، إذ لا بدّ من أن يجد عملاً. ويفترض أنّ سنوات خبرته تؤهّله لإيجاد فرص عمل مناسبة. شاء القدر أن يحصل العكس. وبدأت تمضي الأشهر من دون أي بارقة أمل، هو "البارع" في العمل الإداري. وفي لحظات يأسه، لطالما أعاد قراءة سيرته الذاتيّة للتأكّد من براعته. بعدما نفدت مدخراته، توقّف عن دفع بدل إيجار بيته. في البداية، بدا صاحب البيت متعاطفاً معه، هو الذي لم يتأخّر عن التزاماته يوماً. لكن الأمر طال، وبات مضطرّاً إلى إخلاء البيت. قبل ذلك، كان يعرض أثاث المنزل للبيع. ومنه، كان يعيش. أحياناً، يتناول الطعام في منزل والديه، أو يعدّ الأطعمة الخفيفة، علبة "طون" مثلاً. ثمّ انتقل إلى العيش في منزل والديه. وبطبيعة الحال، لن يأخذ مصروفه منهما، هما اللذان يتّكلان عليه أصلاً.

باع سيّارته ودفع لصاحب البيت مستحقّاته. بقي له القليل ليعيش. طبعاً، لم يشترِ إلّا ما هو ضروري. سنتان على هذا الوضع. أحياناً، كان يمدّه أصدقاؤه ببعض المال. "راتب ما بعد البطالة هو أجمل من الراتب الأوّل"، يقول. كأنّه ولد من جديد. خلال الفترة التي كان فيها عاطلاً من العمل، بدا وجهه شاحباً، وقد شاخت ملامحه. "كيف لا، إنّه الهمّ". مضى على توظيفه نحو عام. واليوم، يشعر بالاستقرار و"النعمة"، في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة في البلاد.




ويبدو أنّ هذه الأزمة تطاول الجميع، مثل الأنفلوانزا في فصل الشتاء، والتي لا ترحم أحداً. حان دور علاء الذي يعمل في مجال البرمجة. أصلاً، ليس لديه أي مدخرات. قبل نحو عامين، كان وضعه المادي مستقرّاً نسبيّاً. تمكّن من شراء منزل بعدما اقترض من أحد المصارف، واختار لطفليه مدرسة خاصة مقبولة. حاله حال كثيرين، كان قادراً على العيش ممّا يتقاضاه وزوجته، من دون الادخار أو السفر وما إلى ذلك. وحدث أن ترك عمله نتيجة مشاكل في العمل. كان يُدرك أنّ هذه اللّحظة آتية لا محالة، إلّا أن التفكير فيها كان صعباً، أو ربّما سابقا لأوانه، إلى أن حان وقتُها، ولا مدخرات.

لحسن الحظّ أنه كان قد دفع رسوم المدرسة كاملة. لكن بقي عليه تدبّر تسيير حياته اليوميّة، من دون أن يضطر إلى الاستدانة. والأهمّ، تسديد قيمة القرض، وهي كبيرة. الاتكال حالياً على راتب زوجته. يقول إنّه يعتمد على الورقة والقلم. "سجّلت المدفوعات الأساسية، على أمل ألّا يكون هناك مفاجآت". يضيف أنّه لم يعد يخرج وعائلته إلى المطاعم، أو أماكن الألعاب التي تفرض رسوماً على الأطفال. والأمر الإيجابي أنّ طفليه يفضّلان الأماكن المفتوحة. هذا العام، لجأ إلى الشواطئ العامة على سبيل المثال. حتى في مشترياته اليومية، "لم أعد أدلّل نفسي أو عائلتي. ما المانع لو تناولنا الطعام نفسه على مدى ثلاثة أيّام؟ نحرص على تأمين الغذاء اللازم للولدين، من دون الإفراط في شيء. خفّفنا من استهلاك اللحوم مثلاً". ما من خطّوة واضحة في حال طال الأمر. "قد أضطرّ إلى بيع السيّارة، وبعدها إلى الاستدانة. لكنّ أظنّ بأنّني قد أقبل بأي وظيفة، حتى لو عملت نادلاً أو حمّالاً". يضيف: "الشغل مش عيب".

بقيت ندى. بقيت هنا. فخارج هذا النص، ربّما يعاني كثيرون من أوضاع مماثلة. هي التي أُخرجت من الشركة التي كانت تعمل فيها كمحاسبة بعد إفلاسها، عانت الأمرّين. كانت قد انفصلت عن زوجها واستأجرت بيتاً لها ولطفليها. حدث ذلك قبل أن تتحول إلى عاطلة من العمل. بعد أشهر، كانت الصدمة. في البداية، اعتمدت على مدخراتها القليلة. ثم لم تعد قادرة على تحمّل بدل إيجار البيت والأقساط الأخرى وغيرها من المصاريف اليومية. تركت البيت، وعادت إلى منزل والديها، فيما انتقل الطفلان إلى منزل والدهما. "نكبة"، هكذا تصف تلك الفترة. "من المخجل أن أضطر إلى الحصول على مصروفي من والدي بعد كل هذه السنوات". تراكمت الديون عليها، وخسرت الحضانة. وجدت عملاً اليوم، "لكنّني خسرت حياة".