مهاجرو صفاقس... عقاب جماعي وسياسات تطهير وتجاهل

مهاجرو صفاقس... عقاب جماعي وسياسات تطهير وتجاهل

08 يوليو 2023
بات خطاب الكراهية ضد المهاجرين عميقاً في صفاقس (حسام زواري/ فرانس برس)
+ الخط -

ينتظر المهاجر الكيني ساوودي رومبا أن يهدأ الوضع في محافظة صفاقس التونسية كي يغادرها نهائياً بعدما استقر فيها أكثر من 4 سنوات، ويقول لـ"العربي الجديد"، بعد أيام من الاشتباكات التي شهدتها المدينة بين سكانها ومهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، وأدت إلى مقتل مواطن طعنه مهاجر بسلاح حاد: "هرب معظم المهاجرين من جحيم بلدانهم والحروب والفقر والاقتتال للبحث عن حياة آمنة، لكن تنامي العنصرية ضدهم ورفض وجودهم في صفاقس لن يترك لهم إلا خيار المغادرة طوعاً أو بالإكراه".
ويروي أنه حين جاء إلى صفاقس لم يكن ينوي الاستقرار فيها، وأراد فقط جمع بعض المال من العمل في الأراضي الزراعية لاستخدامه في تنفيذ رحلة هجرة سرّية عبر البحر، ثم أجّل تنفيذ قرار الهجرة إلى أوروبا بعدما اندمج بسرعة في حياته الجديدة بالمدينة. لكن الأحداث الأخيرة وتنامي العنصرية ضد المهاجرين خلط كل أوراقه، في ظل تصاعد الرفض الشعبي لوجود المهاجرين في أحياء عدة من صفاقس.

ومثلت حادثة مقتل مواطن تونسي بمنطقة "ساقية الداير" نقطة تحوّل في علاقة المدينة بالمهاجرين الذين دأبت على استقبالهم، إذ أطلقت دعوات لترحيلهم، وتهجيرهم من المساكن التي يستأجرونها، فيما نقلت السلطات بعضهم إلى أماكن أخرى. واختار بعض المهاجرين الرحيل بمحض إرادتهم من دون أن يحددوا وجهاتهم بعدما تعرضوا لمضايقات من الأهالي بلغت حدّ التعنيف والاحتجاز.
يقول عضو رابطة حقوق الإنسان في صفاقس، حمّة حمادي، لـ"العربي الجديد: "تحوّلت صفاقس إلى مدينة عنصرية بعد حملات التجييش ضد مهاجري دول أفريقيا جنوب الصحراء، وما يحصل هو نتاج مشاكل متراكمة لم تحلها السلطات، ما فجّر الوضع. المهاجرون فئة هشة تدفع ثمناً باهظاً لسياسات عقيمة في معالجة الهجرة بمنطقة البحر المتوسط عموماً، وقد بذلت السلطات الأمنية في تونس جهداً كبيراً للسيطرة على الأوضاع المحتقنة، لكن منسوب العنف كان أكبر".
وينتقد حمادي استمرار الصمت الرسمي تجاه ما يحصل في صفاقس، في ظل غياب سلطة محلية، وشغور منصب المحافظ. ويقول: "بات خطاب الكراهية ضد المهاجرين متجذراً في العمق الشعبي في المدينة التي احتضنت أكثر من 40 ألف مهاجر طوال سنوات، وقد يتواصل الاحتقان في غياب حلول جذرية لملف الهجرة".
ويشير إلى أن "المهاجرين المطرودين من صفاقس يواجهون مصيراً غامضاً بعد ترحيلهم إلى وجهات لم تكشفها السلطات، كما أن مقاطع الفيديو التي تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي لطرد المهاجرين، وارتكاب أعمال عنف ضدهم تسيء إلى سمعة تونس، ونخشى أن يؤدي ذلك إلى تعرّض مهاجرين تونسيين في بلدان أخرى لردود فعل سلبية". ويلفت حمادي إلى أن "مراقبة الحدود مسؤولية الدولة، لذا نطالب السلطات بتشديد تدابير حماية الحدود، وكشف محتوى الاتفاق الخاص بملف الهجرة الذي وُقّع مع إيطاليا أخيراً".

الصورة
المهاجرون الأفارقة أمام خيار مغادرة صفاقس طوعاً أو بالإكراه (العربي الجديد)
المهاجرون الأفارقة أمام خيار مغادرة صفاقس طوعاً أو بالإكراه (العربي الجديد)

تعد صفاقس نقطة عبور رئيسية للمهاجرين إلى الضفة الشمالية للمتوسط، وتشهد سواحلها رحلات كثيفة للهجرة السرّية، كما تنشط في موانئها تجارة قوارب الهجرة المتهالكة التي تتسبب في غرق المهاجرين. والأحد الماضي، أعلنت السلطات التونسية إحباط 65 عملية هجرة سرّية، وضبط 2068 شخصاً حاولوا الإبحار إلى أوروبا خلال عطلة عيد الأضحى.
وأفادت الإدارة العامة للحرس الوطني في بيان، بأنّ "وحدات إقليم الحرس البحري في الوسط (المناطق البحرية في صفاقس وقرقنة والمهدية)، أحبطت 47 عملية لاجتياز الحدود البحرية خلسة، وأنقذت 1879 مهاجراً، هم 1858 من جنسيات دول أفريقيا جنوب الصحراء، و21 تونسياً".
وتتعرض تونس لضغوط أوروبية متصاعدة لتعزيز مراقبة شواطئها ومنع قوارب الهجرة من المغادرة. وتعهدت دول أوروبية بتقديم دعم مالي لها من أجل تحقيق هذا الهدف، علماً أن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان ونظيرته الألمانية نانسي فيزر أعلنا في أعقاب زيارتين لتونس تقديم مساعدات بقيمة 26 مليون يورو لخفض عدد المهاجرين إلى أوروبا. لكن الرئيس التونسي قيس سعيّد أكد خلال لقائه وزير الداخلية كمال الفقي وقيادات أمنية أنّ "تونس دولة لا تقبل أن تكون منطقة عبور أو مكاناً لتوطين وافدين إليها من عدد من الدول الأفريقية، كما ترفض أن تحرس غير حدودها".
في المقابل، أدانت منظمات محلية في بيان مشترك "انتهاك سلطات تونس أحكام الاتفاق الدولي رقم 1951 الخاص بوضع اللاجئين، والذي صادقت عليه تونس عام 1957، كما أوضحت أن الاتفاق المبرم في منظمة الوحدة الأفريقية عام 1969 للتعامل مع مشاكل اللاجئين في أفريقيا يمنع أن يواجه أي شخص رفض دخول على حدود أي دولة عضو، أو إعادة قسرية أو الطرد إلى وجهة تهدد حياته أو سلامته الجسدية أو حريته، واعتبرت أن "عمليات الطرد التعسفي غير القانونية التي تنفذها الدولة التونسية أصبحت ممارسات شائعة".
وفي السياق، يقول المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الذي يعتبر من بين المنظمات التي وقعت على البيان، رمضان بن عمر، لـ"العربي الجديد"، إنّ "السلطات رحّلت مئات من المهاجرين، بينهم نساء وأطفال، إلى الحدود الليبية". 
ويشير إلى أن "مجموعات متفلتة تفرض سطوتها على مدينة صفاقس، وتطبق سياسات التطهير والعقاب الجماعي عبر طرد المهاجرين بالقوة، وبينهم نساء ورضع وحوامل وأطفال قصّر"، ويعتبر أن "السلطات تضفي شرعية على عمليات الطرد عبر نقل المهاجرين إلى الحدود الليبية، وبينهم أطفال ونساء وأشخاص مشمولون بالحماية الدولية، وذلك في ظل ظروف قاسية، كما تعرقل وصول المنظمات إليهم من أجل منحهم مساعدات إنسانية".

الصورة
لم تحل السلطات التونسية المشاكل فانفجر الوضع (العربي الجديد)
لم تحل السلطات التونسية المشاكل فانفجر الوضع (العربي الجديد)

وينتقد بن عمر "خلق بيئة طاردة للمهاجرين في نقاط ساخنة عبر تأجيج الممارسات والعنصرية وخطاب الكراهية ضدهم، باعتباره جزءاً من استراتيجيات ضبط التدفقات التي تعتمدها أوروبا، ولا تنحصر في عسكرة السواحل والمعدات، بل تشمل أيضاً تسليح بيئة الانطلاق بخطاب الكراهية وجعله في خدمة أجنداتها".
ويعتزم الاتحاد الأوروبي منح تونس قوارب ورادارات نقّالة وكاميرات وعربات لمساعدتها في تعزيز ضبط حدودها البرية والبحرية بحلول نهاية الصيف الحالي، وكذلك تعزيز التعاون الأمني والقضائي معها من أجل مكافحة شبكات المهرّبين، مع اقتراح تسهيل إعادة التونسيين الذين يقيمون بشكل غير قانوني في أوروبا الى بلدهم.
ويتولى الاتحاد الأوروبي تمويل العودة "الطوعية" للمهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء عبر تونس إلى بلادهم، وهو موّل 407 عمليات لهذه العودة هذا العام.
وإلى جانب الاتهامات الموجهة إلى سياسات الاتحاد الأوروبي بتأجيج الأوضاع في صفاقس، لا يستبعد الناشط في المجتمع المدني بالمدينة سامي البحري أن تستغل أطراف سياسية الوضع لمحاولة تقويض السلم في المدينة. ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "انفجار موجة العنصرية ضد المهاجرين في صفاقس يطرح علامة استفهام عدة في شأن سرعة تحوّل الموقف تجاه فئة المهاجرين الهشة التي شكلت لسنوات جزءاً من نسيج سكان المنطقة".
ويكشف البحري عن "تزايد عدد المهاجرين السرّيين الذين قدِموا إلى المدينة في الأشهر الأخيرة، لا سيما بعد اندلاع الاشتباكات المسلحة في السودان"، ويطالب السلطات بأن "تتحمّل مسؤولياتها في حماية الحدود من تدفق مزيد من المهاجرين، من أجل تأكيد احترامها حقوق الإنسان والمواثيق الدولية الخاصة بالهجرة. هناك أيضاً اعتداءات خلفت إصابات في صفوف مهاجرين توّلت منظمات طبية محلية معالجتهم، فيما غابت المنظمات الدولية لإغاثة المهاجرين عن هذه المهمة".

واندلعت الأحداث الأمنية الأخيرة في صفاقس بعد أشهر من التوترات المتزايدة في المدينة التي تحوّلت إلى نقطة انطلاق أساسية لقوارب المهاجرين الذين يقصدون سواحل أوروبا، لكن غموض تفاصيل الاتفاق الموقع بين تونس وإيطاليا والاتحاد الأوروبي أفسح في المجال أمام تأويلات واسعة في شأن التطورات الأخيرة، وتساءل البعض عما إذا كانت صفاقس ورقة ترفعها السلطة للمقايضة والضغط على أوروبا من أجل الحصول على دعم إضافي أهم للخزائن الفارغة، ونيل الاعتراف السياسي الكامل بها، وغض النظر عن القضايا الحقوقية ومطالب عودة الديمقراطية.

المساهمون