مهاجرو "أوشن فايكينغ" منسيون بعد عام على إنقاذهم في البحر

مهاجرو "أوشن فايكينغ" منسيون بعد عام على إنقاذهم في البحر

10 يوليو 2021
شكر خاص لسفينة الإنقاذ (فرانس برس)
+ الخط -

بعد عام على إنقاذهم، التقى مراسل "فرانس برس" مهاجرين انتشلتهم سفينة "أوشن فايكينغ" من عرض البحر الأبيض المتوسّط، علماً أنّهم اليوم منسيّون بمعظمهم في إيطاليا. وفي هذا الإطار، تشدّد المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في فرنسا على وجوب أن تضع أوروبا "بشكل عاجل" آلية تلقائية لتوزيع المهاجرين الذين يُنتشلون من البحر الأبيض المتوسط.

بالنسبة إلى سليمان محمد، توقّف الزمن منذ إنقاذه قبل عام مع مجموعة من المهاجرين في عرض البحر الأبيض المتوسط، فهو ما زال ينتعل الحذاء الأبيض الذي حصل عليه في ذلك الحين، وفي إمكانه استحضار لحظة انتشاله من مركبه في تمام الساعة الخامسة عصراً والدقيقة الحادية والعشرين. وإذا كان الرجل الباكستاني البالغ من العمر 39 عاماً يتذكّر ساعة إنقاذه بهذه الدقة، فهذا يعود إلى أنّه لم يحدث أيّ جديد يُذكر منذ الثلاثين من يونيو/حزيران 2020 وإنزاله في إيطاليا في السابع من يوليو/تموز من العام نفسه. هو يكتفي بالانتظار، ملازماً المسكن الذي أوى إليه في غابة بعمق إيطاليا على مسافة ساعة سيراً على الأقدام من أقرب محطة للحافلات.

يقول سليمان "أجلس هنا، ثم أنهض وأجلس هناك. ثم أنام. مضى عام وأنا على هذه الحال". فهو علق عند إنزاله في متاهة دبلوماسية أوروبية عرقلت توزيع المهاجرين البالغ عدد 180، الذين انتشلتهم سفينة منظمة "إس أو إس ميديتيرانيه" الإنسانية،على دول من القارة، فأحبطت الأحلام التي دفعت هؤلاء (هو واحد منهم) إلى تحدّي الموت وخوض رحلة محفوفة بالمخاطر بحثاً عن حياة أفضل يعمّها الهدوء والسلام.

واليوم، هم أمام معضلة، فإمّا أن يتريّثوا في إيطاليا على أمل إضفاء شرعية على وضعهم، وإمّا الفرار إلى بلد أوروبي آخر بطريقة غير قانونية. سليمان من أنصار الخيار الأوّل، فيقول لوكالة "فرانس برس" التي سبق أن التقته عندما كان على متن سفينة "أوشن فايكينغ" في عام 2020: "لا يمكننا تعلّم اللغة الإيطالية. نحن محتجزون هنا في غابة". يلفّ سيجارة ويضيف: "الواقع أنّني لم أرَ أوروبا بعد. لكن ما العمل؟ إنّني أنتظر".

وما زال 17 من المهاجرين الذين أغاثتهم السفينة في البحر الأبيض المتوسط، معظمهم باكستانيون، ينتظرون حتى يومنا هذا في مركز الاستقبال المؤقّت ذاك. يُذكر أنّ سليمان أجرى مقابلة، في فبراير/شباط الماضي، طلباً للجوء، وهو ينتظر منذ ذلك الحين رداً على طلبه.

كان من المفترض أن يكون المهاجرون في وضع مختلف اليوم. فحين تُنزل منظمة غير حكومية مهاجرين في إيطاليا، تبدأ عادة محادثات برعاية المفوضية الأوروبية لاتخاذ قرار بشأن توزيعهم، فتستقبل فرنسا وألمانيا معاً نصفهم. ويصل المهاجرون الذين تختارهم فرنسا إلى أراضيها في مهلة ثلاثة أسابيع، فتُعالج ملفاتهم بموجب آلية لجوء مسرّعة ويتمّ إيواؤهم من دون إبطاء. لكنّ رئيس المكتب الفرنسي للهجرة والاندماج الذي يتكفّل بهذا الملف ديدييه ليشي أوضح أنّه "لم يتمّ التوصل إلى اتفاق لإعادة التوزيع بالنسبة إلى تلك السفينة، بالتالي بقي المهاجرون في إيطاليا".

الصورة
تحرك في فرنسا تضامناً مع سفينة أوشن فايكينغ (كليمان ماهودو/ فرانس برس)
تحرّك في فرنسا لتحرير المهاجرين على متن "أوشن فايكينغ" (كليمان ماهودو/ فرانس برس)

وتفيد معلومات جمعتها "فرانس برس" بأنّ مهاجري سفينة "أوشن فايكينغ" هم الوحيدون الذين لم يتمّ توزيعهم في عام 2020. وعند البحث عن الأسباب، يلمّح البعض إلى أنّهم كانوا ضحايا مفاوضات صعبة، كانت تجرى في الوقت نفسه بين باريس وبرلين وروما، حول مسألة توزيع المهاجرين عموماً على بلدان القارة. وفي مطلق الأحوال، ترى أوروبا أنّه تمّ التكفّل بهم فعلياً "إذ إنّ دولة الوصول هي المسؤولة عنهم وعن النظر في طلباتهم للجوء". لكنّ الواقع يبيّن أنّ القسم الأكبر من هؤلاء المهاجرين سئموا ضبابية وضعهم، وحين باشرت إيطاليا تسجيل طلباتهم بعد ستة أشهر مع عدم التوصّل إلى اتفاق أوروبي بشأن توزيعهم، كان ثلاثة أرباعهم قد غادروا البلد قاصدين فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا.

ويخبر إرسلان، وهو شاب باكستاني يبلغ من العمر 25 عاماً يقيم بطريقة غير قانونية حالياً في فالنسيا بإسبانيا: "كانوا يقولون لنا كلّ يوم: الردّ اليوم والردّ غداً. وكنّا نكتفي بالبقاء هناك من دون القيام بأيّ شيء، فيما الآخرون يغادرون". وبعد قضاء ثلاثة أشهر في غابة بروسينو إلى جانب سليمان، استقلّ إرسلان، الذي ما زال يحمل آثار التعذيب وسوء المعاملة في ليبيا، القطار في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي في اتجاه ميلانو، حيث ساعده أحد أقربائه على عبور الحدود الفرنسية ثمّ الإسبانية في سيارة. ومنذ ذلك الحين، يعمل الفتى قصير القامة والملتحي بطريقة غير قانونية لحساب عمّه، آملاً الحصول على وثائق قانونية في إسبانيا. يقول: "لا أجد وقتاً للخروج، لكنّني أحمد الله على أنّني على قيد الحياة ولديّ عمل".

كثيرون من الذين اختاروا إكمال رحلتهم عبر أوروبا على يقين بأنّ هذا الطريق يؤدّي غالباً إلى أوضاع غير قانونية، من بينهم نبيل الإريتري الذي قرّر المجازفة وعبور بحر المانش للانتقال إلى بريطانيا. يقول: "غادرت لأنّنا كنا نعيش كأنّنا في سجن. لم يكونوا يزوّدوننا بشيء، ولا حتى ملابس داخلية، ولم نكن نحصل على أيّ معلومات (بخصوص الأوضاع). وبعد ثلاثة أشهر، بدأت أستعلم وقلت لنفسي إنّ لديّ فرصة ولو ضئيلة في تدبّر أموري في ألمانيا".

الصورة
مهاجرون يحتفلون على متن سفينة أوشن فايكينغ (فرانس برس)
يحتفلون بصدور قرار إنزالهم في إيطاليا (فرانس برس)

وفي فرنسا، التحق عثمان الباكستاني، أخيراً، بنادٍ رياضي في ضواحي باريس لقاء 150 يورو شهرياً، وهو استثمار كبير بالنسبة إليه، إذ يستنفد ثلث المساعدة الممنوحة له كطالب لجوء. لكنّ ذلك بالنسبة إليه يمثّل المرحلة الأولى من "انطلاقة جديدة" في باريس بعد "هدر عام" في إيطاليا. ويوضح من مقهى باريسي أنّ "المسألة تتعلّق بصحتي الجسدية والعقلية. فقد تملّكني حقد على إيطاليا دمّرني جسدياً ونفسياً، بعدما ظننت أنّني عشت الأسوأ في ليبيا". وبعد تسعة أشهر قضاها في مركز للاستقبال في إيطاليا "ممدداً من دون القيام بأيّ شيء ومن دون إفادتنا بأيّ شيء ومن دون أيّ معالجة"، فضّل ركوب القطار إلى فينتيميلي وعبور الحدود من هناك إلى فرنسا.

إلى جانب هؤلاء، ثمة مهاجرون قرروا البقاء في إيطاليا، وعددهم نحو ثلاثين، لكنّهم يعيشون اليوم في ما يشبه دائرة مفرغة. يقول إرشاد محمد البالغ من العمر 21 عاماً، مرتدياً الجلباب الباكستاني التقليدي في منزل زهريّ اللون خُصّص للمهاجرين في غابة بروسينو: "نحن ننتظر... ننتظر... ننتظر".

وتمرّ الأيام في ذلك المنزل ما بين قيلولة وإعداد وجبات طعام على مواقد على الأرض، إذ تمنع المنظمة المشرفة على المركز استخدام المطبخ. يُذكر أنّ المنطقة غير موصولة بشبكة الهاتف، لكنّ الإنترنت متوفّر في ذلك المنزل، فيقضون جميعهم وقتهم متابعين "فيسبوك" و"يوتيوب" و"تيك توك"، ويعلّقون على منشورات لمهاجرين "نجحوا" ونشروا صور "سيلفي" لهم أمام مواقع مختلفة في أوروبا. كذلك يتابع هؤلاء عمليات الإنقاذ في المتوسط.

ويشير إرشاد محمد إلى أنّ "الجميع جاء إلى هنا من أجل حياة أفضل، لكنّ هذه هي حالنا اليوم. هنا لسنا أحراراً، بل نعيش كأنّما نحن في سجن". يضيف: "توقّفت حياتنا بكل بساطة بين ليلة وضحاها منذ العام الماضي".

من جهته، يقول إرشاد الله الباكستاني الذي يبلغ من العمر 24 عاماً، والذي لم يحصل حتى الآن على أيّ موعد لتقديم طلب اللجوء: "كنّا سعداء. ظننا أنّه بعد كل ما عانيناه، سوف نخرج أخيراً من المأزق. لكنّ مأزقاً آخر بدأ".

ويعيش المهاجرون جميعهم بمبلغ قدره 75 يورو شهرياً لكلّ واحد منهم، وهي قيمة المساعدة التي تقدّمها لهم الحكومة الإيطالية لتأمين طعامهم وملبسهم وكلفة المعاملات الإدارية والأدوية وغيرها. ويقول إرشاد محمد وهو يضحك بعصبية "إذا مرضنا، مهما كان مرضنا، حتى لو كسرنا رجلنا، يعطوننا فقط أقراص باراسيتامول".

الصورة
وصول المهاجرين على متن سفينة أوشن فايكينغ إلى إيطاليا (فرانس برس)
لحظة وصولهم إلى إيطاليا (فرانس برس)

ويبدأ المهاجرون نهارهم ويختتمونه بمراجعة رسائلهم النصية علّهم تلقوا رسالة من ربّ عملهم، إذ يعملون جميعهم تقريباً بشكل يومي في المدن المحيطة.

نعيم الباكستاني البالغ من العمر 35 عاماً، والذي رُفض طلبه للجوء أخيراً، يعمل في محطة محروقات في أكوابندنتي التي تبعد نحو ثمانية كيلومترات عن مكان إقامته. فيها يغسل السيارات على مدى 12 ساعة في اليوم لقاء 10 يوروهات، ما يعني 80 سنتاً في الساعة. ويعلّق إرشاد محمد هنا: "هم يستغلوننا لأنّنا لا نملك شيئاً ونحن في حاجة إلى العمل". لكنّ نعيم يرفض الشكوى قائلاً: "رُفض ملفّي لأنّهم يصنّفون البنجاب الباكستاني منطقة آمنة". ويسأل: "لو كانت الأمور على ما يرام، فلماذا نحن هنا؟"، مضيفاً: "سوف أبقى الآن في إيطاليا. وفي مطلق الأحوال، سوف أواجه الرفض في أيّ مكان آخر. وشيئاً فشيئاً، سوف أكسب 15 يورو ثمّ 20".

يُذكر أنّ اللحظات السعيدة في الحياة الرتيبة التي يعيشها هؤلاء نادرة. فهؤلاء ذهبوا في رحلتَين إلى بحيرة بولسينا على مسافة 30 دقيقة من مكان إقامتهم، وزار عدد منهم ثلاث مرّات قرية بروسينو الهانئة بمقهاها وكنائسها الخمس. ولأنّ الشرطة قصدت المركز بعد كلّ زيارة، امتنع المهاجرون عن معاودة المغامرة.

من بين هؤلاء، كان بيتر إنينايا النيجيري من القلائل على متن "أوشن فايكينغ" الذين كانوا يقصدون إيطاليا تحديداً. هو كان يريد الانضمام إلى زوجته وابنته ميراكل البالغة من العمر ثلاثة أعوام، بعدما فقد أثرهما حين احتجزه مسلّحون في ليبيا. لكنّه منذ وصوله، لم يُسمح له برؤيتهما إلا مرّة واحدة في أغسطس/آب 2020 في مركز بونتيكورفو للمهاجرين إلى الجنوب من روما حيث يقيم، علماً أنّه لا يستطيع الخروج من المركز تحت طائلة تعريض طلبه للجوء إلى الخطر. ويشكو يائساً: "يقولون لي إنّه مركز للرجال. لكنّه في الحقيقة سجن. العيش فيه من دون عائلتي، التي واجهتُ كلّ هذه المخاطر من أجلها، أمر رهيب".

ولم ينجح سوى عدد ضئيل من هؤلاء المهاجرين الخارجين من الجحيم الليبي، منهم عبد الحفيظ عبد الوحيد الذي حصل أخيراً على اللجوء السياسي لخمسة أعوام في إيطاليا. وصار يحمل جواز سفر إيطالياً يثير إعجاب اصدقائه. يقول الشاب المقيم في المنطقة الصناعية بمدينة أورتي الإيطالية: "أنا سعيد اليوم. في البدء، كنت أريد نقلي إلى بلد آخر. لكن بعد ستة أشهر، قيل لي إنّ عليّ تقديم طلب اللجوء هنا. بقيت احتراماً للقوانين، وفي نهاية المطاف نجح الأمر". وهو الآن متردّد ما بين البقاء أو الرحيل إلى النرويج، حلمه الأول، علماً أنّه لن يفعل ذلك إلا بطريقة قانونية.

في سياق متصل، رأت المتحدثة باسم المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في فرنسا سيلين شميت، في حديث إلى وكالة "فرانس برس"، أنّه يتوجّب على أوروبا "بشكل عاجل" وضع آلية تلقائية لتوزيع المهاجرين الذين يُنتشلون من البحر الأبيض المتوسط، تكون واضحة وتضامنية لتأمين استقبال أفضل لهم.

وعند سؤالها عن فشل تولّي أوروبا أمور 180 مهاجراً أنزلتهم في إيطاليا السفينة الإنسانية "أوشن فايكينغ" قبل عام، وهل هو دليل على سياسة لا تعمل جيداً؟ أجابت شميت: "لا أستطيع القول إذا كان هذا خطأ معزولاً، لكنّه يوضح المشكلة الكاملة للمفاوضات التي تتناول كلّ قارب بمفرده وعدم توفّر آلية توزيع تلقائية يمكن توقّع نتائجها. وهذه الآلية مهمّة لأنّ الاستقبال يجب أن يكون منظماً، من خلال تسجيل سريع للأشخاص بمجرّد نزولهم في أوروبا. بالتأكيد، يمكن لهؤلاء الأشخاص التقدّم بطلب للحصول على اللجوء في إيطاليا، بلد الإنزال، لكنّه لا يجب أن تكون هذه المسؤولية ملقاة فقط على البلدان التي تحدّ البحر الأبيض المتوسط بسبب موقعها الجغرافي. لهذا السبب، لا بدّ من أن يكون ثمّة تقاسم للمسؤوليات وللتضامن من قبل مختلف الدول الأوروبية لحماية الأشخاص الفارين من الحروب والاضطهاد والذين يحتاجون إلى حماية دولية".

وأكدت شميت أنّ "ذلك ينطبق خصوصاً على الأشخاص الضعفاء، خصوصاً الأطفال الذين يجب تحديد احتياجات لمّ شمل أسرهم بسرعة"، لافتة إلى أنّه في الفترة الممتدة ما بين 2020 و2021، سُجّلت صعوبات في البدء بعمليات النقل بسبب جائحة كورونا. لكنّ الأوان قد آن للمضي قدماً في مسألة الاستقبال هذه مجدداً".

وعمّا سوف يغيّره إنشاء آلية التوزيع هذه، تقول شميت: "لو كانت هذه الآلية قائمة لما حصلت مثل هذه العرقلة. فمع آلية يمكن توقّع نتائجها، نستجيب كذلك للحاجة إلى تعزيز قدرات البحث والإنقاذ في المتوسط حيث تتواصل المآسي، لأنّ التضامن يبدأ قبل وصول هؤلاء الأشخاص إلى أوروبا. هو يبدأ مع إنقاذ أرواح وإيصال هؤلاء الأشخاص إلى مرفأ آمن. وهذا الأمر سوف يتيح كذلك إنزالاً أسرع لتجنّب أن يعلق مهاجرون في البحر، في بعض الأحيان لمدّة أسابيع، إلى جانب تقاسم التضامن مع الدول التي يصل إليها المهاجرون مع إجراءات لتحديد حاجتهم إلى الحماية وإعادة توطينهم. هذا ما ينصّ عليه الميثاق الأوروبي بشأن اللجوء والهجرة الذي قدّمته المفوضية الأوروبية".

(فرانس برس)

المساهمون