زراعة الوقود... جوع العالم يدحرج سيارات الدول الغنية

زراعة الوقود... جوع العالم يدحرج سيارات الدول الغنية

13 يوليو 2022
ينتشر الجوع في الدول الأقل تطوراً تقنياً (إيفيوغ إيتانغ/ فرانس برس)
+ الخط -

قبل عقود كانت منظمات إنسانية دولية تتهم الشركات العملاقة في الغرب بإهدار كميات ضخمة من الأغذية، خاصة الحبوب. ثم تطورت التقنيات، وأفضت البحوث التي أجريت لإيجاد بدائل للوقود التقليدي إلى استخدام هذه الحبوب على نطاق واسع لإنتاج ما يسمى وقود "إيثانول" الحيوي. وهكذا استبدل مثلاً وجود الذرة على موائد أطفال يواجهون الجوع باستخدامه في صناعات الشركات لتحقيق هدف "التحوّل الأخضر" لملء خزانات وقود السيارات ومعدات غيرها. وأضيف ذلك إلى أسباب الجوع الأخرى في العالم، وبينها التغيّرات الطارئة على المناخ منذ سنوات، وانتشار الجفاف، ورفع الحروب والأزمات تكاليف الغذاء في الدول الفقيرة. 
وفيما تحذر من كوارث جوع في الدول الأقل تطوراً تقنياً، لا تخفي منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) استياءها من سياسات الدول الغنية على صعيد استخدام الحبوب في إنتاج الوقود الحيوي، خصوصاً أن إنتاج 50 ليتراً من "الإيثانول" الحيوي يتطلب 232 كيلوغراماً من الحبوب التي قد تجعل طفلاً في أفريقيا يعيش عاماً كاملاً. 
وكان قادة الدول السبع الكبرى اختلفوا على قضية وقف إنتاج الوقود الحيوي المستخرج من محاصيل الحبوب، باعتبار أن استمرار نفوذ الشركات العملاقة يفرض مواصلة تطبيق السياسات نفسها التي تهدر الطعام، بدلاً من التنبه إلى مآسي حالات جوع تتشكل في نحو 45 بلداً، علماً ان التقرير الأخير الذي نشرته "الفاو" بعنوان "أزمة مجاعة عالمية عام 2022 لم يسبق لها مثيل"، كشف أن 345 مليون إنسان يعيشون في ظل انعدام تام للأمن الغذائي.

قبل الهدر... جفاف وفيضانات
وحتى قبل الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا بدءاً من 24 فبراير/ شباط الماضي، والتي فاقمت الأزمة الغذائية في أفريقيا التي تعتمد نسبة 90 في المائة منها على واردات القمح من البلدين، أطلّت الأزمة برأسها من خلال التداعيات السلبية للتغيرات المناخية التي خلّفت 4 مواسم جفاف متتالية في منطقة القرن الأفريقي، وكذلك من خلال فيضانات خلّفت كوارث في بلدان أخرى.
وكان تفشي جائحة كورونا، واندلاع صراعات، وانخفاض القدرة الشرائية نحو 24 في المائة في المتوسط في العالم بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، أثرت في شكل غير مسبوق على قدرة منظمات الإغاثة على فعل الكثير، وفرضت شح مصادر التمويل لعملياتها خلال الكوارث. 
وقد خصصت قمة الدول السبع الكبرى مليارات من الدولارات لمنافسة الاندفاع الصيني نحو القارة الأفريقية، لكن ذلك لا علاقة له بما يسمى "التحالف العالمي للأمن الغذائي" الذي يعمل منذ أمد طويل على توفير قدر أكبر من الأمن الغذائي، ويروّج لممارسات زراعية عالمية أكثر استدامة. 

الصورة
هدر الطعام أكبر وأكبر في الدول الغنية (شارلي تريبالو/ فرانمس برس)
هدر الطعام أكبر وأكبر في الدول الغنية (شارلي تريبالو/ فرانس برس)

أوروبا تحرق الخبز
والمستغرب في السياسات العالمية للأمن الغذائي، عدم مبالاة دول كثيرة بمشاهد الموت بسبب الجفاف وجوع وسوء تغذية في أكثر من 5 دول في منطقة القرن الأفريقي، علماً أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحدثت العام الماضي عن الحجم الهائل لاستخدام الحبوب في إنتاج وقود "إيثانول" الحيوي، وصولاً إلى حرق محركات السيارات في العالم أكثر من 100 مليار ليتر من المادة، و43 مليار ليتر من "الديزل" الحيوي. وتتوقع الوكالة استمرار ارتفاع استهلاك الوقود الحيوي بنسبة 5 في المائة هذا العام، و3 في المائة عام 2023. 
وتقدّر شركة "غرو إنتيليجنس" للتحليل الدولية، بأن السعرات الحرارية الخاصة بالحبوب التي تهدر لإنتاج وقود حيوي تكفي لسد احتياجات السعرات الحرارية لنحو 1.9 مليار إنسان. 
كذلك، تكشف منظمة النقل والبيئة الأوروبية لديها أن استهلاك دول الاتحاد الأوروبي للقمح والذرة والسكر وبذور اللفت وزيت عباد الشمس وفول الصويا من أجل إنتاج الوقود الحيوي لمدة عام، يلبي احتياجات السعرات الحرارية لـ150 مليون إنسان. ويعني ذلك بالنسبة إلى المنظمة أنه "فيما ترتفع أسعار القمح عالمياً في شكل صاروخي، تحرق أوروبا 15 مليون رغيف خبز يومياً، و19 مليون زجاجة من زيت عباد الشمس وزيت بذور اللفت لجعل السيارات تتدحرج".
ويكشف "التحالف الأخضر" في المفوضية الأوروبية، أن الأوروبيين يزرعون وحدهم نحو 74 ألف كيلومتر مربع من الأراضي لتأمين هذه الكميات الهائلة من الوقود الحيوي، بدلاً من استخدامها في إنتاج محاصيل الاستهلاك البشري. 
ويشير مركز بحوث "مجلس التحوّل الأخضر" الأوروبي إلى أنه "إذا خفض الاتحاد الأوروبي إلى جانب أميركا وبريطانيا إلى النصف إجمالي استهلاك المواد الخام من المحاصيل لإنتاج الوقود الحيوي، ستتوفر كميات كافية من الحبوب لتعويض كل صادرات الحبوب من أوكرانيا". 

الصورة
قد يعيش طفل في أفريقيا لمدة عام على 232 كيلوغراماً من الحبوب تنتج 50 ليتراً من "الإيثانول" (كارل دي سوزا/ فرانس برس)
قد يعيش طفل في أفريقيا لمدة عام على 232 كيلوغراماً من الحبوب تنتج 50 ليتراً من "الإيثانول" (كارل دي سوزا/ فرانس برس)

القرن الأفريقي الجائع
ويحلل خبراء بأن القمة الأخيرة للدول السبع الكبرى التي استضافتها ألمانيا بين 26 و28 يونيو/ حزيران الماضي، لم تكترث، لأسباب تتعلق بخلافات بين قادتها، لمسألة تعزيز الأمن الغذائي العالمي، حتى عبر التضحية بنصف استخدامات المحاصيل الزراعية في إنتاج الوقود الحيوي. وهي تطرقت في بيانها النهائي إلى موضوع تعزيز الإنتاجية الزراعية في البلدان الأكثر ضعفاً، والضغط على روسيا من أجل رفع الحصار عن صادرات الحبوب من أوكرانيا، لكن الدول الأفريقية باتت تعيش كارثة متعددة المصادر والأسباب. 
وسبق أن حذرت منظمة "الفاو" من أن انعدام هطول الأمطار 4 مواسم متتالية وضع منطقة القرن الأفريقي في "وضع كارثي لم نشهده منذ 40 عاماً". وذكر مدير مكتب الطوارئ والقدرة على الصمود في المنظمة رين بولسن، أن "الجفاف يهدد حياة 18 مليون إنسان الآن".  
وباتت مشاهد نفوق الماشية والحيوانات أكثر انتشاراً في جيبوتي وإثيوبيا وكينيا والصومال. وبين عشرات الملايين المهددين بالجوع، يتسلل انعدام الغذاء إلى حياة نصف سكان الصومال، أي نحو 7.6 ملايين شخص، في وقت نفقت ملايين الماشية. واعتبرت المنظمة أن انتقال أسر الرعاة وماشيتهم من مناطق إلى أخرى في هذه الدول بحثاً عن الماء والغذاء تسبب في مزيد من الكوارث، إضافة إلى ما سمته "بروز نزاعات وصراعات بين مجموعات سكانية بسبب قلة الموارد المتاحة. والصورة قاتمة جداً حتى على صعيد تأمين الحليب للصغار المهددين بالموت". 
ويذكر بولسن أن القرن الأفريقي يعيش على شفا المجاعة، "فحتى قبل احتباس الأمطار وانتشار الجفاف كان 16.7 مليون إنسان على الأقل يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وينضم إليهم الآن أكثر من 18 مليون شخص مع انقطاع وصول الحبوب، وانهيار قطاعات الزراعة المحلية". 
وأوضحت "الفاو" أنه "إذا كانت مسألة عدم الحصول على الطعام خطيرة في القرن الأفريقي، فإن عدد الذين يعانون من جوع شديد في العالم ارتفع من 135 مليونا إلى 345 مليون شخص، وغالبيتهم في القارة الأفريقية".

دفاع التجار 
وفيما يؤثر الارتفاع العالمي للأسعار سلباً أيضاً على جهود الإغاثة المبذولة، أطلقت "الفاو" نداء لمساعدتها في مواجهة ارتفاع أسعار الغذاء والوقود "لأن حجم إنفاقنا الشهري سيزيد أكثر من 74 مليون دولار مقارنة بعام 2019، حتى نتمكن من إشباع عدد الأشخاص ذاته. وإذا لم نفعل ذلك، سيحرم 4 ملايين شخص من الحصة اليومية لسد الرمق".
ورغم تأكيد الدراسات سلبيات حرق المحاصيل في خزانات الوقود الحيوي، يستمر رفض تجار هذه المواد في القارة الأوروبية تغيير سياساتهم الإنتاجية، وخفض حرق مليارات الأطنان من الحبوب. واعتبروا في تعليق نشره موقع "يوروأكتي" الإخباري الأوروبي أن "الوقود الحيوي لا علاقة له بأزمات الغذاء، والقطاع الزراعي الأوروبي تحديداً ينتج كميات أغذية أساسية أكثر بعشرة أضعاف مما هو مطلوب للتغذية الأساسية". 

حتى ان هؤلاء يتفاخرون بهدر الحبوب لصناعة ليترات من الوقود والديزل الحيوي "للمساهمة في تأمين أعلاف للحيوانات غنية بالبروتين، وخفض استيراد فول الصويا الأميركي، علماً أن ما يثار ليس إلا جزءا من أزمة المعلومات المضللة المنتشرة في أوروبا". 
يذكر أن شركة "بويت" التي تتخذ من ولاية أيوا مقراً، تعتبر أكبر منتج لـ "الإيثانول" في العالم بنحو 11 مليار ليتر سنوياً. 
وخلال زيارته مصنع الشركة قبل شهرين شجع الرئيس الأميركي جو بايدن على زيادة هذه الصناعات، ووعد باستثمار أكثر من 100 مليون دولار فيها لتوسيع البنية التحتية الأميركية للوقود الحيوي.

المساهمون