درنة الجديدة... السكان يحاولون العودة للحياة

درنة الجديدة... السكان يحاولون العودة للحياة

07 أكتوبر 2023
لم تحدد السلطات الليبية ملاءمة منازل درنة للسكن بعد الفيضانات (أماندا معوض/ فرانس برس)
+ الخط -

 

تتغلب عزة النفس لدى سكان درنة على استجدائهم أي مساعدة، لذا يواصلون محاولاتهم البسيطة لإعادة الحياة إلى ما تبقى من مدينتهم، رغم تقاعس السلطات، وعدم وضوح رؤيتها في شأن المرحلة التالية.

بعيداً من مظاهر النكبة الناتجة من وفاة آلاف من سكان مدينة درنة المنكوبة بالعاصفة "دانيال" التي ضربتها في العاشرة من سبتمبر/ أيلول الماضي، واختفاء ثلث منشآت المدينة بالكامل، وتضرر باقي أجزائها في شكل متفاوت، كان لافتاً بعد مرور أسابيع عدة من الكارثة محاولة أبناء المدينة العودة إلى حياتهم الطبيعية، رغم وجود مجموعة مخاطر قد تزيد تعقيدات الكارثة في حال عدم تداركها، ومنع عرقلتها الجهود المبذولة لبعث الحياة مجدداً في المدينة الواقعة شمال شرقي ليبيا.

عموماً بدأت آثار الكارثة تتكشف بعد مرور يومين، حين تركت الفيضانات كميات كبيرة من مخلفات السيول من طمي وحجارة وأشجار وغيرها في مختلف أنحاء المدينة، حتى في الأماكن المرتفعة. وهذا ما شاهده سكان حي الرفاعي حين رجعوا إلى بيوتهم في اليوم الثاني أو الثالث بعد الكارثة، حين وجدوا الطرقات والمنازل مغمورة بأطنان من المخلفات.

وبذل سكان الحي جهودا ذاتية لتنظيف منازلهم التي صمدت أمام الفيضانات، ما عكس رغبتهم في العودة للعيش فيها باستقلالية واطمئنان، رغم معاناة بعض المنازل من أضرار كبيرة. ولم يشكك السكان العائدون في احتمال أن تكون أعمال النظافة وإعادة التأهيل السريعة كافية لضمان عيشهم في مدينتهم مجدداً، واستبعاد تعرضهم لمخاطر أخرى.

الصورة
دمار وأطنان من المخلفات (كريم صاهب/ فرانس برس)
دمار وأطنان من المخلفات (كريم صاحب/ فرانس برس)

بادر حسن الحمري الذي يسكن في حي الرفاعي، وأبناء عمومته وجيرانه إلى إخراج ما أمكن من كميات الماء والوحل من منازلهم، وغسلوا ما بقي من أثاث وجففوه، وذلك بعد يومين من رجوعهم إلى منازلهم التي كانوا غادروها إلى مدرسة احتضنت الفارين من السيول في ليلة انهيار سدّي المدينة، لكنهم لم يتمكنوا من مواصلة المكوث في أماكن جماعية، وكان لا بدّ بالتالي من أن يعودوا إلى ديارهم.

ويقول الحمري لـ"العربي الجديد": "نفذ السكان عمليات تنظيف وشفط المياه بجهودهم الذاتية، وأجرى غالبيتهم أعمال صيانة إضافية في منازلهم بعدما عادوا للسكن فيها". وفي شأن اطلاع مسؤولي بلدية درنة والسلطات على الأضرار التي طاولت حي الرفاعي، وتقييم ما إذا كانت المنازل لا تزال صالحة للسكن الآمن في ظل عوامل التعرية التي أنتجتها السيول وتراكم الطمي، نفى الحمري زيارة أي لجان رسمية مختصة حي الرفاعي لمعاينة حجم الأضرار التي لحقت بالمنازل، وتحديد مدى ملاءمتها للسكن بعد الكارثة.

ويبدي الحمري قلقه الكبير من التشققات الكثيرة في منازل ومباني الحي، ومن استمرار وجود أكوام من السيارات والمخلفات التي جرفتها الفيضانات في الأزقة، لكنه يؤكد أن لا بديل لدى سكان كثيرين من محاولة العيش مجدداً في مناطقهم.

وبخلاف التضامن الاجتماعي الذي أبداه جميع الليبيين مع درنة وفاجعتها، فشل التفاعل الذي أبدته الحكومتان في طرابلس وبنغازي في تبديد مخاوف السكان، ويعتبر سكان كثيرون أن الانقسام السياسي أثر سلباً أو حتى عطّل بالكامل جهوداً كثيرة كان يمكن أن تغيّر الواقع الميداني الحالي، وهو ما يؤيده فايز الدرة أحد سكان حي الجبيلة بدرنة في حديثه لـ"العربي الجديد".

وتختلف الرؤى والتصورات في شأن إعادة اعمار درنة. ودعت الحكومة المكلفة من مجلس النواب في بنغازي إلى تنظيم مؤتمر دولي لإعادة إعمار درنة في أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أما حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس فطالبت بأن يرعى البنك الدولي ملف إعادة الإعمار.

وسارع اللواء المتقاعد خليفة حفتر إلى محاولة دعم سيطرته العسكرية على الشرق والجنوب عبر التوجه إلى حليفته روسيا التي استهل زيارة رسمية لها مؤخراً، في حين لا يزال المجلس الرئاسي يحاول أن يلعب دور القائد المحايد في ملف كارثة العاصفة "دانيال" لكنه لا يملك نفوذاً كافياً لفرض تطبيق تصوراته وآرائه.

ويخبر المهندس المدني جبريل المهيوب "العربي الجديد" أنه يخشى من أن يزيد التنافس بين حكومتي الغرب والشرق التخريب في درنة بدلاً من العمل لإعادة إعمارها. ويقول: "انشغال السلطات الليبية بالصراعات السياسية وتورطها بالفساد المالي دفعاها خلال السنوات الأخيرة إلى تشييد منازل وعقارات في أماكن غير آمنة، وبشكل قانوني من دون منح تراخيص، وكان بعضها على جانبي وادي درنة، وأخرى في وديان تعيش فيها قبائل. ويعتبر بالتالي أن "إعادة بناء المباني والمنازل في أماكنها السابقة، وفي شكل غير مدروس، هو استعداد لكارثة أخرى، خاصة أن درنة غير محمية حالياً من هطول أمطار قادمة بعدما انهار سداها".

الصورة
تغيّرت الملامح الجغرافية لكل الأماكن المنخفضة في درنة (خليل فيضان/ الأناضول)
تغيّرت الملامح الجغرافية لكل الأماكن المنخفضة في درنة (خليل فيدان/ الأناضول)

وكانت زيادة ضغط المياه المتدفقة تسببت في انهيار السد الأول، وهو سد بومنصور، وسعته 22.5 مليون متر مكعب، ويقع على بعد 13 كيلومتراً من مدينة درنة، فتدفقت منه كميات كبيرة من المياه اجتاحت السد الثاني، وسعته 1.5 مليون متر مكعب، والذي يقع على بعد كيلومتر واحد فقط من المدينة.

ويحذر المهيوب من "دق أي مسمار" في درنة قبل الأخذ في الاعتبار عوامل عدة يلخصها في مجموعة أسئلة يجب أن تطرح فعلياً، وبينها: "هل أماكن البناء كانت ملائمة في السابق؟ وهل تؤثر مواقعها في سقوطها أو نجاتها من الفيضانات؟ وهل من الملائم الآن البناء في البقع نفسها بعدما تغيّرت الملامح الجغرافية لكل الأماكن المنخفضة في المدينة، بدءاً من السهل المطل على الساحل حيث وسط المدينة، وأيضاً مسار الوادي الذي توّسع عرضه السابق بأضعاف، وتدمرت جسوره الخمسة التي كانت تربط ضفتي المدينة، وكل الجوانب الإسمنتية لمجرى الوادي؟".

وفيما يؤكد المهيوب أن "الرد على هذه الأسئلة يتطلب وضع تصوّر لبناء درنة الجديدة يلحظ فرض مساحة أمان بعيداً من الوادي تضمن عدم تعرض المدنيين لأذى في المستقبل، وتشييد جسور تربط بين ضفتي المدينة التي ساهم انخفاض ارتفاعها في تغيير مجرى المياه، وغرق عمارات محاذية، وذلك قبل أن تنهار، كما تضمن ملاءمة أي بناء جديد لمعايير الزلازل الخاصة بالمنطقة الجغرافية".

ويأمل المهيوب في عدم امتداد أضرار الاهتزازات العنيفة التي تسببت بها حركة السيول الى أساسات العمارات والمنازل، ما يشكل خطراً على السكان، ويقول: "لا نعرف شيئاً عن هذه المخاطر، واحتمال مضاعفتها حجم الكارثة إذا وقع منزل أو عمارة تضم سكاناً". 
ويؤكد المهيوب أن "تداعيات الكارثة قد تتطور في أي وقت، وفي حال اكتشف سكان أي حي وجود أضرار في مبنى قد تهدد حياة السكان، سيمتد الخوف إلى غيرها، ويضطر سكانها إلى المغادرة ما يزيد عدد النازحين".

من جهته، يؤكد المسؤول المقرب من اللجان التحضيرية للمؤتمر الدولي الذي دعت إليه الحكومة التابعة لمجلس النواب، عطية الحصني، في حديثه لـ"العربي الجديد"، حاجة الناس إلى العودة سريعاً إلى الحياة الطبيعية، "لكن الكارثة غير المسبوقة وغير المتوقعة تمنع الإجابة عن كل الأسئلة الخاصة بمستقبل درنة وسكانها". ويوضح أن "جهود الحكومة التابعة لمجلس النواب في بنغازي تحددها أولويات، فهي تنصب حالياً على محاولة توفير سبل حياة كريمة، ولو مؤقتة، للناجين من أهل درنة، والعثور على جميع المفقودين ودفنهم، بالتزامن مع دراسة التصوّر العام لدرنة الجديدة، وتشكيل لجان لتقييم الأضرار من أجل إعادة الإعمار".

وينفي الحصني وجود خطط لإنشاء مدينة جديدة، على غرار ما حصل في مدينة المرج القديمة بعدما دمرها زلزال ضربها عام 1963، لكنه يستدرك بالقول إن "الظروف تفرض إيجاد حلول مؤقتة، بينها فكرة طرحها مهندس لإنشاء جسر مؤقت بين ضفتي المدينة".

وعموماً تتباين الجهود التي تبذلها الحكومتان في طرابلس وبنغازي، فحكومة بنغازي نفذت نشاطات ميدانية عدة، في حين حددت حكومة طرابلس عدد المباني التي تضررت كلياً أو جزئياً، وهو 1500 بينها 891 تضررت بالكامل بحسب إحصاء أولي.

ويبقى الأهم أن الصراع بين الحكومتين يمنع إكمال حصر الأضرار وتقييمها، والذي يرى مراقبون أنه قد يزعج أو يربك أي عقود قد توقع مع شركات أجنبية في شأن إعادة إعمار ما دمرته الفيضانات. 

المساهمون