ثقافة الموت في الصين... طقوس غير مألوفة وجذور تاريخية

ثقافة الموت في الصين... طقوس غير مألوفة وجذور تاريخية

15 يونيو 2021
زيارة للمقابر احتفالاً بمهرجان "تشينغ مينغ" (فرانس برس)
+ الخط -

 

لكلّ شعب ثقافته الخاصة بالحياة والموت، فتختلف طقوس استقبال المولود الجديد وكذلك وداع من وافته المنيّة. وبينما تتشابه عادات جماعات معيّنة، تبرز تقاليد متمايزة عند أخرى، وهذه حال ثقافة الموت في الصين.

يُعَدّ الموت بحسب المعتقدات الشعبية الصينية اضطراباً في التوازن الكوني، لذلك يتجنّب الصينيون الحديث عنه والخوض في تفاصيله لاعتقادهم بأنّ من شأن ذلك التأثير على السلام الداخلي للنفس البشرية، ما قد يعيق دورة حياة الفرد ودوره في المجتمع الذي يعيش فيه. وانطلاقاً من هذه النظريّة، فإنّ طقوس وبروتوكولات الجنائز في البلاد لا تأتي كمجرّد امتثال لتعاليم  كونفوشيوس التي تدعو إلى توقير الأسلاف واحترامهم، بل تُقام كذلك من أجل إعادة التوازن وتحقيق التكافؤ والانسجام بين قوى الخير والشر.

والموت وفق المنظور الصيني ليس منجلاً يحصد الأرواح ويمضي وليس حدثاً آنياً ينتهي بقبض الروح، بل هو حرب معلنة تستهدف في المقام الأول ذوي الميت ويقودها جيش من الأرواح الشريرة، ما يستدعي مجموعة من التحصينات المضادة لقطع الطريق نحو ثروات الأحياء وأعمارهم ونصيبهم من الحظ والنعمة. لذلك تبدو طقوس وأجواء التشييع في الصين أقرب إلى الملاحم التراجيدية بكل تفاصيلها، منذ حدوث الوفاة حتى نهاية الأسبوع الأوّل من ذلك التاريخ حين تعود روح الميت لوداع أصحابه.

وبخلاف ما هو سائد في معظم دول العالم، يُعلن عن الوفاة والحداد في الصين من خلال نصب راية بيضاء على باب منزل الميت، ويتّشح أهله بالبياض. في حال كان الميت طفلاً دون الثامنة عشرة، لا تقام له مراسم عزاء لأنّ التقاليد الصينية لا تحبّذ قيام الكبار بإظهار الاحترام لمن هم أصغر منهم سناً. لذلك يُدفن الرّضع والأطفال بصمت. أمّا إذا كان الميت كبيراً، فيتوافد المعزّون من كلّ حدب وصوب، وتُستثنى من ذلك النساء الحوامل وكذلك الأشخاص المقبلون على الزواج، لأنّ المشاركة في مناسبة مماثلة تجلب الفأل السيّئ.

الصورة
عائلة ميت في ثياب بيض بحسب التقاليد في الصين (فيليكس ونغ/ Getty)
ثياب بيض في وداع ربّ العائلة وفقاً للتقاليد (فيليكس ونغ/ Getty)

تبدأ المراسم بإلباس الميت ثياباً أنيقة، فيما يتجنّب الأهل والأصدقاء ارتداء الملابس الحمراء لأنّ اللون الأحمر يرمز إلى الفرح بحسب الثقافة الصينية، وفعل ذلك يُعَدّ تقليلاً من قدر الميت. كذلك، في أثناء فترة وداعه، تحرص الأسرة على تغطية المرايا في داخل المنزل بالستائر الحمراء، لاعتقادهم بأنّ الأرواح الشريرة تتداعى إذا ما انعكست صورتها عبر المرآة، وبالتالي تجلب اللعنة لسكان المنزل.

ولأنّ الصينيين بمعظمهم متأثّرون بالبوذية، فإنّهم يفضّلون حرق الجثث على دفنها في التراب، فضلاً عن أنّ السلطات الصينية تمنع عمليات الدفن لأنّ في ذلك استنزافا للأراضي الزراعية الشاسعة في البلاد، علماً أنّ مسألة الدفن أو الحرق تخضع بدورها إلى معايير واعتبارات خاصة لها علاقة بالثقافة الصينية. فقد يسجّى جثمان الميت أسبوعَين كاملَين قبل الدفن في انتظار أن يتوافق موعد ذلك مع تاريخ محدّد يرمز إلى معنى إيجابي، مثل اختيار اليوم الثامن من الشهر. فلفظ الرقم ثمانية باللغة الصينية هو "با" ويرمز إلى السعادة والثراء، بخلاف الرقم أربعة الذي يُعَدّ نذير شؤم لأنّ لفظه باللغة الصينية هو "سي" أي الموت.

إلى جانب حرق الجثة، تُحرَق نقود ورقية رمزية ويُنثَر الأرزّ على طول خط سير الجنازة، وذلك بهدف إبعاد الأشباح الجائعة والأرواح الشريرة عن المكان. كذلك يتجنّب المشاركون في مراسم التشييع ارتداء الملابس الفاخرة ووضع المجوهرات وحمل أشياء ثمينة مثل الحقائب والساعات باهظة الثمن، لأنّهم مطالبون عند انتهاء المراسم بحرق كلّ شيء كان معهم. ولأنّ الصينيين يعتقدون بأنّ روح الميت تعود بعد ثلاثة أيام، فإنّهم يعدّون الولائم في اليوم الثالث من دون أن يلمسها أحد، فتقدَّم قرباناً. ويُشعلون كذلك البخور والفوانيس الحمراء ليمثّلا منارة في إرشاد الروح نحو مبتغاها. وبعد مرور مائة يوم، وهي فترة الحداد المتعارف عليها في الصين، تبدأ أسرة الميت بحرق كلّ مقتنياته من أدوات مختلفة وملابس، كذلك تُطلى جدران المنزل، خصوصاً غرفة الميت، وتُفتح الأبواب والنوافذ لطرد الطاقة السلبية، تمهيداً إلى عودة الحياة إلى المنزل كما كانت عليه قبل حدوث الوفاة.

الصورة
صينيون وبخور بمناسبة مهرجان تشينغ مينغ (ميغيل كانديلا/ Getty)
بخور وسط مهرجان "تشينغ مينغ" (ميغيل كانديلا/ Getty)

عن هذه التقاليد والطقوس يقول جاو لونغ وهو سكرتير مركز كونفوشيوس في مقاطعة لياونيغ، إنّه "على الرغم من مرور أكثر من ألفين وأربعمائة عام على ظهور الكونفوشيوسية (نسبة إلى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس)، فإنّها (هذه الفلسفة) ما زالت تؤثّر بشكل كبير على التفكير والسلوك الصيني، خصوصاً في ما يتعلق بمسألة الحياة والموت"، مؤكداً أنّ "طقوس الجنائز جزء مهمّ من الحياة الاجتماعية في الصين ينمّ عن فهم فلسفي لمعنى الموت". ويوضح لـ"العربي الجديد" أنّ "الصينيين القدماء منذ أسرة تشين التي أسّست الإمبراطورية الصينية الأولى، كان لديهم مفهوم خاص بالموت ويعتقدون بأنّ أرواح الأموات قد تعيش في مكان آخر. لذلك كانوا يدفنون مع موتاهم كلّ ما يلزم لذلك". ويستشهد بجيش الطين أو ما يعرف بـ"التيراكوتا" الذي عُثر عليه في مدينة شيآن إلى جانب ضريح الإمبراطور الأوّل تشين شي خوانغ، الممتد على مساحة 56 كيلومتراً مربّعاً.

ويشير جاو لونغ إلى أنّ الصين تحتفل بالأموات في مهرجان "تشينغ مينغ" الذي يهدف إلى "تبجيل هؤلاء من خلال زيارة قبورهم وتقديم الأطعمة والمشروبات لهم بصورة رمزية. وتُدعى الأجيال الجديدة إلى المشاركة امتثالاً لتعاليم كونفوشيوس". ويؤكّد أنّ ثقافة الموت الصينية مكثّفة وعميقة وتنطوي على ألغاز عديدة من التاريخ الصيني القديم. هي ألغاز ما زالت في حاجة إلى مزيد من الدراسة والاستكشاف، خصوصاً أنّ الحديث هنا يرتبط بحضارة تعود جذورها إلى آلاف السنين".

أياً تكن غرائب تقاليد وطقوس الموت في الصين والتي تبدو غير مألوفة في مجتمعات وحضارات أخرى، فإنّها في الواقع تنطلق من مبدأ إنساني مشترك، يتعلق بالرغبة في التعبير عن احترام وتقدير الميت بغضّ النظر عن المعتقد الذي يمثّل مفترق طرق بين أمة وأخرى حول مصير الروح وملامح "الحياة الثانية".

المساهمون