تقسيط المياه... شحّ غير مسبوق في تاريخ تونس

تقسيط المياه... شحّ غير مسبوق في تاريخ تونس

08 ابريل 2023
شحّ المياه يهدد جميع التونسيين (فريد دوفور/ فرانس برس)
+ الخط -

أعلنت الحكومة التونسية اعتماد نظام ظرفي لـ"تقسيط المياه"، يستمر حتى 30 سبتمبر/ أيلول المقبل، وسط مخاوف من تصاعد أزمة المياه صيفاً، وغياب الحلول لتعويض نقص مياه السدود.

وقالت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، في بيان، إن "البلاد تبدأ رسمياً نظاماً مؤقتاً للتزود بالمياه الصالحة للشرب، وتمنع استعماله في الزراعة أو سقي المناطق الخضراء وتنظيف الشوارع وغسل السيارات، وذلك بسبب موجة الجفاف التي خلفت سدوداً شبه فارغة. مخالفة التراتيب (القرار) ينجر عنها عقاب بخطية (غرامة) مالية، والسجن لفترة تراوح بين 6 أيام إلى 6 أشهر".
ولم يسبق لتونس منذ الاستقلال اعتماد نظام "تقسيط المياه"، إذ يتمتع المواطنون بتوافر الماء الصالح للشرب على مدار اليوم، سواء مياه الاستعمال المنزلي أو المياه المخصصة للأنشطة الاقتصادية. وتستهلك الأسر التونسية نحو 14 في المائة من الموارد المائية الوطنية، بينما يقدر الاستهلاك الفردي بـ120 لتراً في اليوم.
تؤكد التونسية نفيسة الرباعي (78 سنة) أنها عاشت كل مراحل حياتها في ظل وفرة المياه، ولم تجبر يوماً على "تقسيط الماء" رغم أن عائلتها كانت تتزود من بئر في فناء المنزل، قبل أن يُعمَل في بداية الستينيات على ربط المنازل بشبكة الماء الصالح للشرب التي توفر الخدمة على مدار اليوم.
تقول السبعينية التونسية لـ"العربي الجديد"، إن "قطع الماء ليلاً لم يشمل منزلي القريب من محطة التزويد الرئيسية في محافظة باجة (شمال غرب)، غير أنني اتخذت إجراءات احترازية بتخزين كميات من المياه للاستعمال الليلي. أشعر بالقلق من تأثير موجة الجفاف، وانقطاع مياه الحنفيات على كبار السن، فغالبيتنا تعودوا وفرة الماء، ما يسهّل عليهم قضاء حوائجهم طوال اليوم". تضيف الرباعي: "تقسيط الماء ليس بالأمر السهل، ويصعب على مواطنين قضوا عقوداً من أعمارهم يتمتعون بخدمات الماء المتواصلة تقبله، التقسيط والجفاف يؤثران بنفسية المسنين، ويزيد من مشكلاتهم".
ويعتبر رامي الطرفاوي (40 سنة) أن تقسيط الماء بقرار رسمي يربك حياة التونسيين، رغم أن القرار كان متوقعاً بسبب موجة الجفاف التي تمرّ بها البلاد منذ سنوات. ويضيف لـ"العربي الجديد"، أن "التأثير النفسي للقرار كبير، وانعكس على تدوينات التونسيين على مواقع التواصل الاجتماعي التي ضجت بتساؤلات واستفسارات حول المناطق الأكثر استهدافاً بقرار قطع المياه الليلي".

تأثيرات تقسيط المياه أقلّ حدة في ريف تونس بسبب التعويل على التخزين

يقول الطرفاوي إن "الخوف من العطش صيفاً يدفع العديد من التونسيين إلى تخزين كميات من المياه المعلّبة، فالجميع يرجح أن تزيد أسعار قوارير الماء خلال الأشهر القادمة بنسبة لا تقل عن 20 في المائة مع زيادة الطلب بحلول الصيف، كذلك تحاول الأسر التأقلم مع الوضع الجديد، والتدرب على التقشف المائي خوفاً من الأسوأ عند ارتفاع درجات الحرارة".
وتعيش تونس هذا العام إحدى أقسى سنوات الجفاف، إذ يتواصل غياب الأمطار، ما دفع مسؤولين في وزارة الزراعة إلى اتخاذ قرار تقسيط الماء لأول مرة في تاريخ البلاد.
ولا يؤثر القرار في استهلاك المنازل فقط، إذ يقدر نائب رئيس غرفة محطات غسل وتشحيم السيارات، علي بن يحيى، عدد العمال الذين سيعانون من البطالة نتيجة قرار منع محطات الغسل من استعمال مياه الحنفيات بأكثر من 5 آلاف عامل. يقول لـ"العربي الجديد": "كل محطة لغسل السيارات تشغل نحو 10 عمال، ويتقاضى كل منهم أجراً ما بين 700 إلى 1000 دينار شهرياً، وسيواجه نحو 50 في المائة منهم بطالة قسرية. أكثر من 40 في المائة من المحطات تستعمل مياه الحنفيات، بينما تستغل بقية المحطات الآبار، والمحطات التي تستعمل مياه الآبار مستثناة من قرار منع العمل".

الصورة
التأقلم مع تقسيط المياه ليس سهلاً (فرانس برس)
التأقلم مع تقسيط المياه لن يكون سهلاً (فرانس برس)

يوضح بن يحيى أن "العاملين في محطات غسل السيارات هم من الفئات الهشة التي ستجبر على البطالة بسبب أزمة الجفاف، رغم أن استهلاك القطاع للماء لا يتجاوز 200 متر مكعب شهرياً للمحطة الواحدة، إذ يُعتمَد على أجهزة ضاغطة تساعد على التقشف في استهلاك الماء. نطالب بإعادة النظر في القرار حفاظاً على رزق آلاف الأسر المهددة بالبطالة، لكننا سنلتزم القرار إلى حين التوصل إلى حلول تحمي الأعمال وتحافظ على المياه".
وتقوم سياسة تونس المائية على إحداث منشآت مائية بهدف استغلال المياه السطحية، وخصوصاً السدود الكبرى، فضلاً عن تخفيف الضغط على الموارد الجوفية والحفاظ على ديمومتها. وحسب التقرير الوطني للمياه لسنة 2020، تصنّف تونس عالميّاً في منطقة القلق المائي، بمعدّل حاجة للفرد يقدر بـ420 متراً مكعّباً.
وتقدّر الاحتياطات المائيّة في تونس بنحو 5 مليارات متر مكعّب، وأغلبها في خزّانات، سواء كانت مياه جوفيّة أو سطحيّة، وحسب بيانات الإدارة العامة للسدود والأشغال المائية التابعة لوزارة الزراعة، قدّر المخزون العام للسدود خلال شهر مارس/آذار الماضي، بـ718 مليون متر مكعب، مسجّلاً تراجعاً بأكثر من 540 مليون متر مكعب مقارنة بمتوسّط مخزون السنوات الثلاث الأخيرة.
ويقول الباحث في علم الاجتماع، ماهر حنين، إن "نقص المياه، وبدء تقسيطها، سيجبران الأسر على إعادة تنظيم حياتها وفق الأوضاع الجديدة، لكن هذا سيرفع من نسب التوتر والقلق بين الأفراد، وبين المواطنين والدولة، باعتبارها المسؤول عن السياسات المائية".

اتجه كثير من التونسيين إلى الاستعمال المكثف لمياه القوارير المعلبة

يضيف حنين لـ"العربي الجديد": "يصعب على الفئات الاجتماعية التي تعوّدت رفاهية المياه في المناطق الحضرية أن تتقبل تقسيطها، أو قطعها لفترات طويلة. تأثيرات قطع الماء وتقسيطه غالباً ما تكون أقل حدة في المناطق الريفية بسبب تعويل الأسر على وسائل ذاتية لتعبئة المياه وتخزينها، فضلاً عن اختلاف الاحتياجات بين الريف والحضر. الفئات الهشة والفقيرة ستكون الأكثر عرضة لتداعيات نقص المياه، ما يزيد من توسع فجوة العدالة الاجتماعية في توزيع الخدمات العامة، وقد يفرز غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الماء موجة احتجاجات ضد السلطة، باعتبارها المحتكر لتوزيع تلك الخدمة، وسيشعر الفقراء بمزيد من الظلم بسبب عدم قدرتهم على توفير مياه الشرب. التونسيون بصدد الانتقال من مرحلة الرفاه المائي إلى مرحلة الشح، وهذا وضع صادم نفسياً، ويحتاج إلى وقت للتقبل".
وبسبب رداءة مياه الشرب، اتجه تونسيون خلال السنوات الماضية إلى الاستعمال المكثف لمياه القوارير المعلبة، وذلك بمعدل استهلاك يراوح بين 6 إلى 8 ملايين قارورة يومياً، ما يكلف الأسر ما لا يقل عن 40 دولاراً شهرياً، بحسب تقديرات المرصد التونسي للمياه.

يحمّل الباحث في مجال المياه، حمزة الفيل، السلطات جزءاً من مسؤولية تردي الوضع المائي في البلاد بسبب التأخر في صيانة شبكات التوزيع القديمة التي تسبّب هدر ما لا يقلّ عن 33 في المائة من الماء الموزع عبر الشبكة الحكومية. يقول الفيل لـ"العربي الجديد": "تأخرنا في وضع سياسات مائية ناجعة تساعد على تعبئة أكبر كميات ممكنة من المياه السطحية، وتحد من المياه المهدرة الناجمة عن تقادم الشبكة. علينا الانتقال إلى اعتماد الشبكة الذكية لتنظيم عملية التزويد بالمياه في مختلف المناطق، وهناك عدد من الحلول المطروحة، على غرار اعتماد الري الذكي، والتشجيع على تحلية مياه البحر، وإعادة تدوير المياه المستعملة بتقنيات عالية".
وأكدت دراسة صادرة عن منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في يناير/ كانون الثاني الماضي، أنه "بات من الضروري إحياء التراث التقليدي للمنشآت المائية التي استخدمها التونسيون على مدار عقود، على غرار البحريات الجبلية، والمصاطب، والسواقي، والفقارة، والغوط، والمواجل. كان من المفترض تطوير هذه المنشآت لتتكامل مع المنشآت العصريّة، إلا أنها هُمِّشَت، وصار التركيز الكلي على الخزانات الكبرى، ما أفقد قطاعي مياه الشرب والزراعة رافداً مهمّاً كان سيلعب دوراً هاماً في مواجهة أزمات التوزيع والانقطاع".
ورغم قلّة التساقطات وتحديات المناخ، تعتبر الدراسة أن "ما تتوافر عليه تونس من مياه، وما تستطيع أن تعبّئه، قادر على الإيفاء بكلّ الالتزامات والحاجيات، وعلى رفع نصيب الفرد اليومي من الماء حتى يصل إلى المتوسط العالمي، ويحقق العدالة المطلوبة".

المساهمون