"العولة"... منظومة غذائية تونسية متوارثة يهددها الجفاف

"العولة"... منظومة غذائية تونسية متوارثة يهددها الجفاف

05 سبتمبر 2023
يشكو التونسيون من اختفاء المواد الغذائية الأساسية (شاذلي بن إبراهيم/Getty)
+ الخط -

يعرقل نقص محاصيل الحبوب في تونس عادات تخزين المؤونة التي توارثتها الأسر، والتي تعوّل على أصناف من الدقيق والبقول لتجهيز "العولة" التي توفر الكفاية الغذائية لها على امتداد أشهر السنة.
وتشكل مؤونة المطبخ التونسي أحد أشكال التحوّط الأسري ضد أزمات الغذاء أو نقص الدخل، وتستغل عائلات أغلب محافظات البلاد أشهر الصيف من أجل تجهيز الأغذية القابلة للتخزين لمواجهة الحاجة خلال بقية أشهر السنة. لكن نقص المواد الأولية لصناعة المعجنات التقليدية أحبط خطط كثير من العائلات التي حاولت طوال أسابيع البحث عن أكياس "السميد"، وهو دقيق القمح الذي يصنع منه الكسكسي والمحمصة، وهما أبرز مادتين في "العولة".
تقول السبعينية فطومة الربيعي إنها تعوّدت على تجهيز العولة في الفترة الممتدة ما بين 25 يوليو/تموز و30 أغسطس/آب، بحسب التقويم الأمازيغي الفلاحي، إذ يستحسن إعدادها في وقت مبكر من فصل الصيف حتى تأخذ الحيز الزمني الكافي لتجف، قبل تخزينها، غير أن الوضع تغيّر هذا العام مع اختفاء السميد من الأسواق.
وتؤكد الربيعي لـ"العربي الجديد"، أن جميع أفراد عائلتها شاركوا في رحلة البحث عن الدقيق من صنف "خمسة يسّى"، وهو صنف جيد يستعمل في صناعة الكسكسي والمحمصة، غير أن الأكياس من سعة 50 كيلوغراما التي كانت متوفرة خلال السنوات الماضية لا توجد عند التجار في هذا العام. وتضيف: "تحتاج الأسر إلى ما لا يقل عن 50 كيلوغراما لصناعة مؤونة سنة من المعجنات التقليدية، وقد تزيد هذه الكمية لدى العائلات التي برمجت أعراساً أو مناسبات، فتحتاج إلى كميات إضافية لإعداد الولائم، غير أن التجار لا يوفرون الكميات الكافية من المواد الأولية لصناعة المؤونة، والمعروض من أنواع الدقيق محدود في الأسواق، وبأكياس من سعة 20 كيلوغراماً، وهي لا تفي بالحاجة".
وتشير إلى التأثير الواضح للجفاف على توفر السلع في الأسواق، وعلى أسعار بعض المواد الأساسية التي بلغت مستويات قياسية، ما قد يدفع بعض الأسر إلى صرف النظر عن إعداد العولة في هذه السنة، على الرغم من أهميتها كنظام اقتصادي واجتماعي متوارث.
وتسبب الجفاف في خسارة كثير من المساحات المزروعة بالحبوب بمختلف أصنافها، ما يزيد من حاجة تونس لاستيراد الحبوب التي تشكل الغذاء الرئيسي للمواطنين، وسط توقعات بأن تفوق واردات القمح خلال العام المقبل 90 في المائة من إجمالي الاستهلاك المحلي المقدر بنحو 3.4 ملايين طن سنوياً.

الصورة
الكسكسي وجبة أساسية في تونس (تييري ترونيل/Getty)
الكسكسي وجبة أساسية في تونس (تييري ترونيل/Getty)

وتجبر تلك الأوضاع السلطات على تقسيط ضخ المواد الأولية لصناعة المعجنات في الأسواق تجنبا لهدر الغذاء، مع إعطاء الأولوية لتوفير الدقيق المصنوع من القمح اللين لفائدة المخابز والأفران من أجل صناعة الخبز.
وتحضر العجائن بمختلف أصنافها بكثافة على الموائد التونسية، سواء المصنوعة بطرق تقليدية في إطار المؤونة الأسرية مثل الكسكسي والمحمصة، أو تلك المصنعة، وعلى رأسها المعكرونة. وتساعد "العولة" الأسر في ترشيد نفقات الطعام، خصوصاً خلال فصل الشتاء، والذي يستعان فيه بالمؤونة المجففة المعدّة صيفاً لإعداد الطعام بأقل كلفة ممكنة.
ولوحظ عودة كثير من التونسيين إلى عادات الأجداد في إعداد المؤونة مسبقاً لاستعمالها على مدار السنة. يقول الباحث المختص في التراث، عبد الستار عمامو، إن "العولة عادة موسمية لدى الأسر، وكانت غايتها حفظ المواد الغذائية للاستفادة منها على مدار العام، ومخاطر نقص الغذاء بعد جائحة كورونا، وتتالي مواسم الجفاف أعاد كثيرا من التونسيين إلى هذا الموروث للحفاظ على أمنهم الغذائي".

ويؤكد عمامو لـ"العربي الجديد"، أن "العولة ضرورة اقتصادية ومجتمعية لدى شرائح واسعة من التونسيين، لا سيما خارج المناطق الحضرية، فتخزين المؤونة يوفر الطمأنينة للأسر التي تعاني من نقص الدخل في أشهر الشتاء، ولا سيما التي ترتبط مداخيلها بالأنشطة الفلاحية أو الموسمية، ما يكسب مؤونة الغذاء مكانة في حياة هذه الشريحة. العولة في الموروث الشعبي التونسي هي تقليد يحول دون الجوع في زمن الجفاف، كما أنها مظهر من مظاهر تأقلم الإنسان مع محيطه الطبيعي ونظامه الاقتصادي الذي كان يقوم على نظام الاكتفاء الذّاتي، فكل عائلة أو قبيلة يجب أن توفّر المخزون الغذائي لكي تُبعد عنها شبح الحاجة".
وتحتفظ العديد من المدن التونسية بعادات الفطور الصباحي التقليدي الذي يعتمد على زيت الزيتون والبسيسة، وهي خليط من البقول والحبوب الكاملة، والتي أثبتت الأبحاث الطبية فوائدها الصحية، في مقابل التداعيات السلبية الناتجة عن تناول المأكولات الجاهزة.

المساهمون