الصين: لامبالاة مجتمعية تتعارض مع الفطرة الإنسانية

الصين: لامبالاة مجتمعية تتعارض مع الفطرة الإنسانية

29 يونيو 2022
كثيرون يتردّدون قبل التدخّل في أيّ حادثة (هوغو هو/ Getty)
+ الخط -

 

عند وقوع حادثة من قبيل اعتداء ما، فإنّ الأشخاص الذين يشهدون ما حصل يهبّون لنجدة الضحايا، في الغالب، ولا سيّما في المجتمعات المحافظة مثل الصين. لكنّ الأمر لم يعد كذلك، وتُسجّل بين الصينيين لامبالاة تتعارض مع الفطرة الإنسانية.

بعد واقعة تعرّض أربع نساء لتحرّش جنسي واعتداء عنيف قبل أيام من قبل مجموعة من الشبان في مدينة تانغشان بمقاطعة خبي شمال شرقيّ الصين، عاد إلى الواجهة النقاش حول اللامبالاة المجتمعية بسبب عزوف المارة وزبائن المطعم حيث وقعت الحادثة عن مدّ يد العون وحماية النساء اللواتي تعرّضنَ لضرب مبرّح لمدّة أربع دقائق. وكان الهجوم الشرس الذي وثّقته كاميرات المراقبة قد أثار حالة من الصدمة والغضب في الشارع الصيني، سواء لجهة استخدام العنف القائم على النوع الاجتماعي، إذ نُقلت إحدى الضحايا في حالة يُرثى لها إلى المستشفى، أو لجهة عدم اكتراث الناس خصوصاً، ولا سيّما أنّه وُجد في المكان عدد كبير من الشبان من دون أن يحرّك أيّ منهم ساكناً.

وظاهرة اللامبالاة المجتمعية في الصين تجاه الحوادث العابرة وتجاه من هم في حاجة إلى مساعدة بسبب تعرّضهم لخطر الموت في بعض الأحيان، تتّسع يوماً بعد آخر. ويُرجع خبراء هذا الإحجام الجمعي عن المبادرة لإغاثة الملهوف إلى التداعيات القانونية. فوفق القانون الصيني، عند وقوع أيّ حادثة يُستدعى كلّ من وُجد في المكان، إمّا كشاهد وإمّا كمشارك في الحدث. بمعنى آخر، قد يكون المسعف أو الشاهد متّهمَين إلى حين ثبوت براءتهما. وثمّة آخرون يرون أنّ كثرة عمليات الاحتيال من خلال ادّعاء بعض الأشخاص الإصابة أو السقوط المفاجئ في الأمكان العامة أو رمي أنفسهم أمام المركبات وتصوير أنفسهم كضحايا، جعل كثيرين يفكّرون ملياً قبل الإقدام على خطوة من هذا النوع. ومع ذلك، يظنّ نشطاء أنّ ذلك ليس مبرراً ويتعارض مع الفطرة الإنسانية المجبولة على رفض الظلم وكف الأذى وإغاثة الملهوفين.

وكان موقع ويبو، المعادل الصيني لموقع تويتر، قد نشر تقريراً في شهر إبريل/ نيسان الماضي عن حجم الاعتداءات التي استهدفت نساءً في الأماكن العامة خلال الربع الأوّل من العام الجاري. وعلى الرغم من أنّ التقرير المصوّر ركّز على سرعة استجابة أجهزة الشرطة وقوات الأمن في ملاحقة المجرمين وضبطهم، فإنّ ما لفت أنظار المتابعين ومرتادي مواقع التواصل الاجتماعي الصينية، أنّ من بين 25 حالة اعتداء كانت جميعها بين العامة، لم يُسجَّل إلا تدخّل واحد من قبل المواطنين لنجدة الضحية. وقد كان ذلك في مقاطعة شاندونغ شرقي البلاد، حين تدخّل شاب وسحب سكيناً من يد رجل يعاني من اختلال عقلي حاول قتل امرأة مسنّة.

الصورة
صينيون على شاطئ البحر في الصين (الأناضول)
يعود الإحجام الجمعي عن إغاثة الملهوف إلى التداعيات القانونية (الأناضول)

سلوكيات شاذة

ترى الباحثة الاجتماعية تانغ لي، من معهد غوانغ دونغ لـ"العربي الجديد"، أنّ "ظاهرة اللامبالاة دخيلة على المجتمع الصيني المحافظ، وأنّها من الآثار الجانبية لنمط الحياة الصناعية وإيقاعها السريع الذي فرض على الناس سلوكيات شاذة لا علاقة لها بأصالة مجتمع تأسس على تعاليم الفيلسوف كونفوشيوس قبل أكثر من 2500 عام". تضيف أنّ "الكونفوشيوسية تدعو إلى التعاضد والرحمة، وتنبذ العنف بكلّ أنواعه وأشكاله. وما نشاهده اليوم انسلاخ عن هذه القيم"، لافتة إلى أنّ "الإدانة الاجتماعية الواسعة لعدم اكتراث من وُجدوا في مكان حادثة تانغشان وعدم تصدّيهم للمعتدين على النساء، تؤكّد أصالة المجتمع الصيني واستنكاره لهذه الظاهرة الغريبة".

من جهته، يقول يي تشون، الطالب في جامعة بكين للغات: "ألتمس العذر لمن وُجدوا في مكان الحادثة ولم يتدخّلوا لنجدة النساء الأربع". يضيف لـ"العربي الجديد": "لو كنت مكانهم، لما تدخّلت، وكنت غادرت المكان على الفور. فقد يكون أحد الأطراف ثملاً، وقد يُقدم على قتل كلّ من يقترب منه، أو قد تكون ثمّة صلة قرابة أو علاقة ما بين الجاني والضحية، وبالتالي يكون التدخّل مجازفة غير محسوبة العواقب". ويتابع يي قائلاً: "ليس للزبائن جميعاً ترف الوقت للتدخّل في حوادث من هذا النوع، لأنّ الكاميرات ترصد كلّ شيء، وقد يُستدعون للشهادة أو المساءلة أمام السلطات، وهي إجراءات تستغرق وقتاً طويلاً. أضف إلى ذلك أنّ تكرار عمليات الاحتيال بهذه الطريقة من خلال توريط العامة في حوادث مفتعلة، دفعت الناس إلى تجاهل أصوات الاستغاثة وعدم بذل أيّ جهد للتحقق من صحتها".

تفكك مجتمعي

في سياق متصل، من الممكن إحالة هذه الظاهرة على أسباب ديموغرافية، فسكان المدن الكبرى بمعظمهم من الوافدين الذين جاؤوا من القرى والأرياف بحثاً عن عمل، وبالتالي كلّ فرد يشعر بأنّه غريب عن المدينة، لذلك لا يمتلك الجرأة للتدخل من أجل فضّ نزاع أو إنقاذ حياة شخص ما. وهذا الإحساس لا يتحقق معه شرط العصبة التي قد تشكّل حصانة اجتماعية ودافعاً إلى الذود عن الآخر في حال التعرّض لاعتداء. في المقابل، فإنّ هذه الظاهرة تنحسر في القرى والأرياف، لأنّ الناس هناك يعرف بعضهم بعضاً، وتربطهم علاقات قرابة ومصاهرة، وبالتالي لا يمكن حوادث من هذا النوع أن تمرّ مرور الكرام من دون أن تلقى ردعاً اجتماعياً صارماً.

وكان نشطاء صينيون قد طالبوا السلطات بفرض عقوبات مشدّدة على الشبان الذين اعتدوا على النساء الأربع، ليكونوا عبرة لغيرهم، فيما طالب آخرون بتشكيل لجان شعبية في كلّ منطقة تُسند إليها مهمّة التدخل السريع في حال وقوع طارئ. وقد رأى هؤلاء أنّ وجود لجان بلباس موحّد ومعروف للعامة قد يشكّل رادعاً للمعتدين، وفي الوقت نفسه قد يحفّز الناس على التدخّل للمساعدة حين يستدعي الأمر ذلك، من دون طرح تساؤلات وتصوّرات مسبقة عن أيّ تداعيات قانونية أو مساءلة شخصية.

المساهمون