التنقيب عن الكنوز في الجنوب السوري

التنقيب عن الكنوز في الجنوب السوري

08 يونيو 2023
عمليات التنقيب مجرّمة قانوناً (لؤي بشارة/ فرانس برس)
+ الخط -

في 28 مارس/آذار الماضي، توفي الشاب السوري فؤاد الصحناوي، من قرية الجنينة الواقعة في الريف الشرقي لمحافظة السويداء، بعد انهيار الحفرة أثناء التنقيب عن "ذهب روماني" في أحد تلال القرية، وتوفي قبله شاب من عائلة "الحضوة" في وسط مدينة السويداء القديمة. تناقل السكان خبر وفاتهما بشيء من المواربة حول الحقيقة، وفق الحذر الناتج عن خوف متجذّر لدى الأهالي من الممارسات الأمنية للنظام.
لا يستهجن كثير من سكان الجنوب السوري وفاة مواطن بحادث انهيار حفرة تنقيب، أو إصابة آخرين في حوادث التنقيب عن "الدفائن"، ويتكرر الحديث عن وفاة شخص بسكتة قلبية، رغم أنه توفي خلال التنقيب، أو قُتل على يد شركائه المنقبين الذين يطلق عليهم محلياً لقب "البحيشة"، وهناك من يتعرضون لجرائم احتيال من عصابات امتهنت أعمال التنقيب.

يقول أحد الضحايا من قرية عيون، الواقعة في الريف الجنوبي للسويداء، طلب عدم الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد"، إنه تعرّض لعملية احتيال أدت إلى ضياع كل ما ادخره خلال غربة طويلة، وأن ذلك كان سبباً في وفاة والدته بسكتة قلبية، وإصابة والده بمرض السكر. يتابع: "لاحظ أحد عمال الزراعة وجود نقوش حجرية في منزلنا القديم، فأوهمنا بوجود كنز، وأحضر فريقاً من محترفي النصب، وباشروا عملهم بخديعة إخفاء تحف صغيرة مطلية بالذهب في حديقة المنزل، ليقوموا لاحقاً باستخراجها بعد أن قام أحدهم بقراءة طلاسم وتعاويذ، ثم أعادوا التجربة في داخل المنزل، بعدما أقنعوا والدتي بوضع ما تملك من مجوهرات في أحد الغرف لتساعدهم على إخراج الكنز من تحت الأرض، وعندها استبدلوا المجوهرات بسبائك معدنية مطلية باللون الأصفر".
كان الشيخ عميد جريرة شاهدا على واقعة أخرى وصلت إلى القضاء، ويقول لـ"العربي الجديد": "كنت شاهدا على تمثيل جريمة قتل حصلت في منطقة ظهر الجبل شرقي السويداء قبل سنوات، ارتكبها مواطن بحق شريكه من عائلة أبو سعدى، ثم سلّم نفسه معترفاً بجريمته للجهات الأمنية. ادعى الجاني في اعترافاته أن شريكه الضحية احتال عليه، واستولى على كامل الدفين، وكان عبارة عن صندوق من الذهب التركي، ما دفعه إلى الانتقام منه عن طريق استدراجه إلى نفس المكان الذي وجدا فيه الصندوق، ليقتله بمسدس. ليست هذه الحادثة الوحيدة؛ بل تكررت بأشكال مختلفة، وغالباً ما يلجأ المتنازعون في التنقيب إلى الحلول العشائرية، أو التكتم والتعتيم على الحادث بعيداً عن القضاء والجهات الأمنية". 
وعن الرأي الديني في أعمال التنقيب، يرى الشيخ جريرة أنه "مقبول دينيا واجتماعيا على خلاف الأحكام والتشريعات القضائية، فهو لا يتعارض مع واجبات الأشخاص الحياتية تجاه الأسرة والمجتمع، ورزقه حلال إن وُجد في أملاك أو عقارات المنقب، أو في أراضي الشيوع غير المُستملكة". 
بعد اندلاع الحرب السورية وانهماك جيش النظام والقوى الأمنية في قمع الثورة، ضعفت القبضة الأمنية في مناطق الجنوب السوري، فوجد العديد من الأهالي الفرصة مواتية للعمل بالمحظورات الأمنية، وفي بعض الحالات منحتهم الأجهزة الأمنية فرصة بالمواربة، أو تحت شعار "افعل ما شئت طالما أنك لا توجه سلاحك إلى الدولة" فاستغلها شباب الجنوب للتنقيب العلني عن الآثار والكنوز. 
يقول أحد المنقبين، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد": "دفعتنا ظروف المعيشة الصعبة والعجز عن توفير متطلبات أسرنا إلى الحلم بنقلة نوعية، ورافق هذا انكسار حاجز الخوف من الملاحقة والعقاب، فانخرطنا في عمل شبه يومي، وتجاوزنا أدوات التنقيب البدائية إلى استخدام الجرافة والكومبريسة، وأحيانا نفجّر الصخور. على الرغم من الخيبات الكثيرة، ما زلنا نحاول ونأمل. بعضنا أمضى جزءا من عمره في التنقيب، والبعض تنازل عن وظيفته الحكومية، أو تخلى عن عمله الخاص، وهناك من خسروا حياتهم، أو أصيبوا بعاهة دائمة، لكنّها (سوسة البحش)". يضيف: "اعتقلت مع عدد من الرفاق من قبل دوريات للأمن العسكري التابع للنظام في عام 2015، أثناء التنقيب بالقرب من موقع عسكري على طريق الحج شمال غربي مدينة السويداء، واقتادونا إلى الفرع، وبعد ساعتين من التوقيف حضر رئيس الفرع، وطلب من الدورية إعادتنا إلى مكان التنقيب مع أدوات العمل، بعد أن قال إننا وطنيون نبحث عن لقمة العيش، ولا نحمل السلاح ضد الدولة".

الصورة
خلفت عمليات التنقيب وفيات وإصابات عدة (لؤي بشارة/فرانس برس)
خلّفت عمليات التنقيب وفيات وإصابات (لؤي بشارة/فرانس برس)

يلتقي الباحثون عن الكنوز في الجنوب السوري بناء على توثيق إشارات ورموز نُقشتْ على الصخور البازلتية منذ عهود وحضارات قديمة سكنت المنطقة، وتركت آثارا معمارية حاضرة حتى اليوم، رومانية أو بيزنطية أو عثمانية، وعادة ما يشترك المنقبون من محافظتي درعا والسويداء في تشكيل فريق عمل يضم خبير إشارات، ومالك جهاز الكشف الإلكتروني، وممولا، وغالبا ما يمتلك خبير الإشارة المعرفة بتاريخ المنطقة إلى جانب خبراته في فك الرموز والإشارات.
يقول خبير إشارات سبعيني من بلدة أم ولد، في ريف درعا الشرقي لـ"العربي الجديد": "المنطقة كانت غنية بالدفائن والكنوز قبل مرحلة توسع قوات (سرايا الدفاع) التي كان يتزعمها رفعت الأسد، وقد استولى هو وأتباعه، ومن خلفهم آل مخلوف، وشاليش، وخير بك على أهم الكنوز الدفينة في درعا والسويداء، ورصدوا لذلك أجهزة بحث متطورة، ودلائل ومخططات وخبراء وعلماء آثار، وسخّروا لهذا الغرض الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة. ويذكر أهالي بلدات صلخد، وشقّا، والقريّا، وإبطح، وداعل وغيرها في ريفي درعا والسويداء، كيف كانت تطوق القلاع والقصور والكنائس الأثرية القديمة، وتُقطع الطرق، بينما تعمل الجرافات لأيام تحت حماية الأجهزة الأمنية". يتابع: "استولى مقربون من النظام على معظم دفائن وكنوز الحقبة العثمانية لأنها كانت سهلة المنال، إذ دُفن بعضها على عَجل في مغارات أو آبار مياه، أو ضمن مواقع أثرية أثناء هروب العثمانيين أبان الثورة العربية الكبرى. أما الدفائن الأكثر قدما، مثل الرومانية، فكانت مدفونة على أعماق أكبر، ويحتاج التنقيب عنها إلى خبرة وحيطة من مخاطر انهيار الجدران والأسقف، ومن الأفخاخ التي كان يضعها الرومان حفاظاً على دفائنهم، وكثيرا ما أُصيب أشخاص بإصابات تصل حد العاهات الدائمة، ولقي البعض حتفهم خلال التنقيب نتيجة الانهيارات".
وتنص المادة 57-2 من قانون الآثار السوري على أن "يعاقب بالاعتقال من عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة، وبغرامة من مائة ألف إلى خمسمائة ألف ليرة سورية، كل من أجرى التنقيب عن الآثار، وهذا يشمل جميع أعمال الحفر والسبر والتحري التي تستهدف العثور على آثار منقولة أو غير منقولة في باطن الأرض، أو على سطحها، أو في مجاري المياه أو البحيرات، أو في المياه الإقليمية"، سواء كان التنقيب في أرض يملكها أم في ملك غيره؛ لأن المادة السادسة من قانون الآثار السوري، تشير إلى أن ملكية الأرض لا تعطي صاحبها حق التنقيب عن الآثار فيها. ولا تختلف عقوبة الاتجار بالآثار عن عقوبة التنقيب عنها، ويُعد مكتشف القطعة الأثرية، ولو بالصدفة، مذنبا إذا لم يبلّغ الجهات الرسمية خلال زمن أقصاه 24 ساعة. 

يقول المحامي السوري شادي الخليل، لـ"العربي الجديد": "تُعتبر عقوبات التنقيب والاتجار بالآثار من أقسى العقوبات التي سنّها المشرّع السوري، وتخلو من أية هفوة أو مدخل يمكن للدفاع استثماره لصالح المتهم، وهي تقارب عقوبات الاتجار بالمخدرات، ولا تفرق في نوع أو قيمة الآثار أو الدفائن. الأسوأ أن جميع الجهات الأمنية تتقصى وتلاحق وتعتقل الجاني وفق قانون الطوارئ، وبعدما كان التنقيب والاتجار بالآثار مسموحا ضمن شروط محددة وفق التشريع رقم 222 لعام 1963، جاء القانون رقم 1 لعام 1999 ليلغي الفصل الخامس من القانون القديم. بالنتيجة، نحن أمام قوانين تجرّم كل من يتعامل بالآثار، ومن بينها الكنوز والدفائن بأشكالها، أو من يغير عن قصد أو من دون قصد المعالم الأثرية، وفي نفس الوقت يمنح القانون السلطات حق تغيير الملامح الأثرية، وهدمها، أو شق الطرق عبرها، أو فوقها، فضلا عن حقوق استخراجها وبيعها".

المساهمون