أطباء السودان... أياد تضمد جراح الصراع على السلطة

أطباء السودان... أياد تضمد جراح الصراع على السلطة

06 مايو 2023
دمر القصف مخازن الأدوية السودانية (فرانس برس)
+ الخط -

مع اندلاع القتال بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع في 15 أبريل/نيسان الماضي، أصبح "مستشفى الشعب" بالعاصمة الخرطوم، في مرمى القصف، ما تسبب في إصابات بالغة لعدد من الأطباء والمرضى، كما تضررت غرف المرضى ومكاتب الأطباء، مما دفع كثيرين منهم إلى المغادرة للنجاة بأرواحهم.
يوم 18 أبريل، اضطر مدير عام المستشفى، الطبيب النمير جبريل، إلى إغلاق أبواب المستشفى الحكومي المتخصص في أمراض وجراحة القلب والصدر، ونقل 112 من المرضى إلى مستشفى الخرطوم التعليمي المجاور، والذي لم يكن أحسن حالاً، فكلا المستشفيين يقعان على بعد أقل من كيلو متر واحد من المنطقة التي تضم قيادة الجيش والقصر الجمهوري، حيث يحاول طرفا القتال فرض سيطرتهما.
منذ اليوم الأول للقتال انقطع التيار الكهربائي وإمدادات المياه عن مستشفى الخرطوم الذي نقل إليه المرضى، واستعانت إدارة المستشفى بمولد كهربائي، كما وفرت المياه عبر نقلها من أماكن بعيدة، لكن الاشتباكات اقتربت أكثر، وبدأت القذائف تتساقط مجدداً بعد أن اتخذ الدعم السريع من مستشفى الشعب منصة لإطلاق النار تجاه قيادة الجيش، والذي شرع في الرد بالطائرات الحربية والمدافع الأرضية.
لم يمكث النمير والمرضى الذين نقلهم طويلاً في مستشفى الخرطوم. بعد 24 ساعة فقط، اضطر إلى نقلهم مرة ثانية إلى "مستشفى جبرة"، والذي يقع على مسافة 8 كيلو مترات جنوبي الخرطوم. يقول لـ"العربي الجديد": "بعض المرضى كانوا في حالة متردية، وليس من السهل نقلهم، لكن القذائف سقطت داخل المستشفى، فكان نقلهم ضرورة".
في الفترة بين 15إلى 20 أبريل، وهى المدة التي قضاها الطبيب النمير جبريل للتنقل بين مستشفيات الشعب والخرطوم وجبرة، لم يكن يذهب إلى بيته للاطمئنان على أطفاله وزوجته المرعوبين، والمحاصرين في شقة بمنطقة "ساريا" غير البعيدة عن مواقع القتال. يقول النمير: "كانت مهمتي هي إنقاذ حياة المرضى لأنني مسؤول عنهم، ولا يمكنني تركهم لمواجهة مصيرهم، أما أطفالي فكنت آمل أن يتدبروا أمرهم بأنفسهم، وألا يصيبهم مكروه".

انقطعت الكهرباء والمياه عن مستشفيات الخرطوم منذ بدء القتال

عقب نقل المرضى إلى مستشفى جبرة، نشر جبريل مناشدة لزملائه طالباً منهم مساعدته في إعادة "مستشفى بشائر" إلى العمل بعد توقفه نتيجة سقوط مقذوفات حربية عليها في 17 أبريل، وبعدد قليل من الكوادر الطبية استطاع تشغيله، وقام بشراء الغازولين من السوق السوداء لتوفير الكهرباء عبر المولدات كون الكهرباء العامة مقطوعة. يقول النمير: "حين عاد المستشفى للعمل لم يقدم الخدمة الطبية فقط لسكان المنطقة التي تعرضت لقصف استمر عدة أيام، بل كان المواطنون يتزاحمون داخله لشحن هواتفهم النقالة للاتصال بذويهم، ويصل عدد العمليات الجراحية التي يتم اجراؤها يومياً بالمستشفى إلى 25 عملية، ومعظمها لمصابين من جراء القتال".
الطبيبة هبة عمر إبراهيم، أم لخمسة أطفال، وهي أخصائية جراحة بمستشفى شرق النيل في الخرطوم، وقد توجهت إلى مستشفى "البان جديد" شرقي الخرطوم، للمساهمة في علاج الجرحى هناك بعد أن توقف مستشفاها عن العمل لأن قوات الدعم السريع سيطرت عليه في اليوم الأول للقتال، وحولته إلى ما يشبه الثكنة العسكرية. 

الصورة
الخرطوم بلا كهرباء ولا مياه (فرانس برس)
الخرطوم بلا كهرباء ولا مياه (فرانس برس)

لم يكن الوصول إلى مستشفى "البان جديد" والعودة منه إلى البيت ميسراً، فالمستشفى يقع في شرق النيل، والمنطقة لا تزال تشهد قتالاً ضارياً بين القوتين العسكريتين المتصارعتين، ورغم المخاطرة الكبيرة واصلت الطبيبة السودانية الذهاب إلى المستشفى، لتنضم إلى أطباء أخرين تكبدوا ذات المشاق للوصول، ولم يفكر أحدهم بالمخاطر.
وتقول إبراهيم لـ"العربي الجديد": "وجدنا المستشفى على وشك التوقف، ولأننا نعلم أنه لا خيار أمامنا سوى جعله يستمر في تقديم الخدمة في هذه الظروف العصيبة، قررنا عدم العودة إلى منازلنا، وتوزعنا في مجموعات، كما ساعدنا أفراد من لجان المقاومة الشعبية، وشباب الأحياء السكنية المجاورة في تقديم الخدمة، وحالياً نعمل على مدار 24 ساعة، والمصابون يصلون إلينا في حالات يرثى لها".
بعد يومين من وصولها إلى المستشفى في 16 أبريل، تذكرت هبة أنها لا تعرف شيئاً عن أطفالها، وحين اتصلت بهم، وجدت أنهم غادروا الخرطوم مع أفراد أسرتها إلى ولاية الجزيرة. تقول: "لحظتها شعرت بالغضب، وقلت لهم يبدو أن حياتي لا تهمكم، لذا غادرتم وتركتموني هنا. لكن شقيقتي أخبرتني أن الأسرة كانت تعلم أنني لن أغادر المستشفى لأتوجه معهم إلى خارج الخرطوم، ولذا قرروا عدم انتظاري، أو حتى سؤالي، وبعد لحظات من التفكير أدركت صحة رأيها، فأنا لن أغادر المستشفى في ظل هذه الظروف".
وفي ظل انقطاع خدمات الاتصالات، وانعدام بطاقات تغذية رصيد الهواتف، تمر أيام عديدة قبل أن تتمكن هبة من الاتصال بأطفالها، وتقول عن ذلك: "هذا الأمر غاية في الصعوبة نفسياً. لكن أيضاً، هذا هو الوقت الذي يحتاجنا المرضى فيه، فكيف لنا تركهم يواجهون مصيرهم للنجاة مع أطفالنا وأسرنا".

أطباء السودان مضطرون لتوفير مستلزمات العلاج بأنفسهم

لا تقتصر مهمة الأطباء في مستشفى "البان جديد" على تقديم الخدمة داخل المستشفى، وإنما وجدوا أنفسهم مضطرين لتوفير مستلزمات العلاج. تقول هبة إبراهيم: "منذ وصولنا إلى المستشفى، كنا نشتري الأدوية، وأكياس الدم، والطعام ومياه الشرب، ونقوم بشكل دوري بتنظيف المستشفى، وبمهام نقل المرضى، وإعطائهم العلاج، ولاحقاً انضمت إلينا مجموعات من لجان المقاومة، وقاموا نيابة عنا ببعض الأعباء".
مستشفى "البان جديد" هو مستشفى ريفي صغير يقع في منطقة الحاج يوسف بشرق النيل، وتوجد به غرفة ضيقة لإجراء العمليات الجراحية الصغيرة، وجهاز تخدير وحيد، وفي هذه البيئة غير الملائمة، تمكن الفريق الطبي المكون من جراحين ونائبي أخصائي، وثلاثة أطباء امتياز وطالب طب لم يكمل دراسته الجامعية، من إجراء أكثر من مائتي عملية جراحية، بعضها كان يُجرى تحت إضاءة الهواتف النقالة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، ما منح الحياة لأعداد من الضحايا الذين كانوا على حافة الموت.

وانقطاع التيار الكهربائي عن المستشفيات بات سمة عامة في السودان، ويقول الطبيب النمير جبريل، والذي يتولى حالياً مسؤولية تشغيل مستشفى بشائر بالجهد الذاتي مع كوادر من المتطوعين، إنه اضطر إلى إجراء عملية جراحية تحت ضوء الهواتف النقالة، لطفل عمره 10 سنوات، أصيب برصاصة في الصدر، ويضيف: "الأخطر من انقطاع الكهرباء، أننا أجرينا تلك العملية المعقدة بتخدير موضعي، لأن اختصاصي التخدير لم يستطع الوصول إلى المستشفى بسبب القتال".
لم يكن الحال أفضل في مستشفى أم درمان التعليمي، فالمستشفى العريق يقع بالقرب من مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون، والمعارك العسكرية تدور حوله منذ البداية، وكان من المتوقع انضمامه إلى قائمة المستشفيات المتوقفة عن العمل، لكن مديره العام قرر أن يستمر في تقديم الخدمة حتى إذا اضطر للعمل لوحده.
يستقبل المستشفى حالياً نحو 320 حالة يومياً، أغلبها إصابات بالرصاص من جراء القتال، أو إصابات على أيدي العصابات التي استغلت حالة السيولة الأمنية للنهب والسرقة وترويع المواطنين. 
انفجرت الطبيبة رزان عوض باكية خلال حديثها عن الأوضاع التي يعمل فيها الأطباء والكوادر الطبية، واصفة الوضع بأنه "مأساوي". تقول: "حين يطرق الجيران باب بيتي ظناً منهم أنني أستطيع مساعدتهم يصيبني الانهيار؛ فأنا لا أملك شيئاً أقدمه لهم. قبل الحرب كان الطبيب يحتفظ ببعض الأدوية والأدوات ليسعف بها جيرانه في حال التعرض لمكروه، ولكن حالياً أصبح الجيران يصابون بالرصاص ولا نستطيع مساعدتهم".
وتضيف عوض: "الأدوية غير متوفرة في المستشفيات، وفي الصيدليات صارت إما معدومة، أو ارتفع سعرها، وبات الناس بلا قدرة على الحصول عليها. غالبية الأطباء لا يستطيعون الوصول إلى المستشفيات، إما لأنهم يخشون الإصابة أو الموت، أو لعدم قدرتهم على التنقل، فمن يملكون سيارة لا يجدون لها الوقود، ومن يستخدمون المواصلات لا يستطيعون دفع أجرة التاكسي التي قفزت إلى ما يعادل 150 دولاراً للمسافة بين الخرطوم وأم درمان".

المساهمون